أقلام

كرامة الإنسان في الإسلام: هبة إلهية أم ثمرة اختيار؟

أحمد الطويل

مقدمة:

في عالم تتقاطع فيه المصالح وتتضارب فيه القيم، يسأل الإنسان نفسه أحيانًا عن معنى كرامته، وهل هي حق مكتسب أم هبة لا تحدّها الظروف؟ هنا يشرق نور القرآن، ويكشف الإسلام عن رؤية عميقة للإنسان: قبل أن يختار، هو كريم، وكل الاختيارات التالية إما أن تعلي هذه الكرامة أو تقلّل من مستوى امتثالها. فكر في هذا السؤال: كيف يمكن للإنسان أن يكون مكرمًا، بينما أحكام الشرع تُبيّن آثار الكفر أو الإيمان؟ الجواب يبدأ من التفريق بين الكرامة الذاتية والكرامة المكتسبة، ويستمد جذوره من الفطرة الإلهية، والنفخة الربانية، والتوجيه الأخلاقي.

حين كرّم الله الإنسان بما هو إنسان:

الآية العظيمة تقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ…} [الإسراء:70]، وهو خطاب لا يميز بين مؤمن وكافر، صالح وطالح، بل يؤكد على كرامة النوع الإنساني قبل أي عمل. كما يوضح السيد الطباطبائي في تفسير الميزان أن هذا التكريم شامل لجميع بني آدم، ولا يقتصر على مرتبة خاصة بالإيمان، بل يعكس إحسان الله وفضله العميم على الإنسان ذاته، قبل أن يختار طريقه. فالإنسان، قبل أن يعمل، قبل أن يختار، قبل أن يقرر، مكرّم بالقدرة على التفكير، والفهم، والتمييز بين الخير والشر، وقابلية الاستجابة للنداء الإلهي.

الإنسان أخ في الدين أو نظير في الخلق:

الإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر يوضح هذا المبدأ الخالد: “الناس صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق” [نهج البلاغة ج3 ص84]. أي أنّ الإنسان لا يفقد كرامته الإنسانية إلا إذا اختار أن يتخلى عنها بإرادته، فالاختلاف في العقيدة لا يلغي أصله، والانحراف في السلوك لا يمحو جوهره. فالمسؤولية مرتبطة بالاختيار، لا بالخلقة.

الكرامة الممنوحة والكرامة المكتسبة:

الكرامة في الرؤية الإسلامية ليست مفهومًا أحاديًّا بسيطًا، بل هي بنية مركّبة تقوم على مستويين متداخلين: مستوى الوجود، ومستوى الفعل. فمن حيث الوجود، الإنسان مكرَّم قبل أن يفعل، وقبل أن يؤمن أو يكفر، لأن كرامته هنا نابعة من كونه إنسانًا، لا من كونه فاعلًا. هذه الكرامة يمكن وصفها فلسفيًا بأنها كرامة ذاتية، أي ملازمة للماهية الإنسانية بما هي إنسان، لا تزول بزوال الصفات العارضة، ولا تُنتزع بتغيّر المواقف.

هذا المعنى يتأسس على حقيقة الإمكان الوجودي للإنسان؛ فالإنسان كائن ممكن، وكل ممكن لا يستمد وجوده ولا كمالاته من ذاته، بل من الواجب تعالى. ومن هنا، فإن كل ما يحمله الإنسان من شرف، وعقل، وإرادة، واستعداد للمعرفة، هو إفاضة إلهية خالصة، لا كسبًا بشريًا. ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، ولم يقل: المؤمنين أو الطائعين. فالتكريم هنا سابق على الاختيار، ومؤسِّس له.

غير أن هذا لا يعني أن الكرامة تقف عند هذا الحد. فالإسلام لا ينظر إلى الإنسان ككائن ساكن، بل ككائن مشروع، يتحقق وجوده الأخلاقي عبر أفعاله. وهنا تظهر الكرامة المكتسبة، وهي كرامة عرضية بالمعنى الفلسفي، أي تابعة للفعل والاختيار، تدور وجودًا وعدمًا مع موقف الإنسان من الحق. فالإيمان ليس مجرد انتماء، بل استجابة واعية لما هو مودَع في الفطرة، بينما الكفر ليس فقدانًا للكرامة الذاتية، بل هو تمرد على مقتضياتها.

وبهذا التفريق، يمكن فهم كيف يجتمع في الإنسان الوصفان معًا: أن يكون مكرمًا من حيث الخِلقة، ومسؤولًا من حيث الاختيار. فالإنسان لا يُحاسب على ما مُنح، بل على ما كسب، ولا يُدان على فطرته، بل على إنكاره لها. وهذا ما يجعل العدالة الإلهية ممكنة، ويمنح التكليف معناه العميق.

الفطرة: الجذر العميق للكرامة:

الله خلق الإنسان مفطورًا على الحق، كما قال: {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]. الفطرة ليست إجبارًا، بل قابلية صافية، تمكن الإنسان من استيعاب الحق، والتمييز بين الخير والشر. فالاختيار الحر مكمل للكرامة، والانحراف عن الفطرة هو تراجع عن مستوى كان يمكن أن يرتقي إليه، بينما الانسجام مع الفطرة هو تجسيد لهذه الكرامة.

الإنسان بين الصعود والسقوط:

الإنسان في الرؤية القرآنية ليس كائنًا محدد المصير سلفًا، ولا صفحة بيضاء بلا اتجاه، بل هو كائن ذو قابلية مزدوجة، يحمل في ذاته إمكان الصعود إلى أعلى عليّين، وإمكان السقوط إلى أسفل سافلين. وهذه الازدواجية ليست تناقضًا، بل تعبير عن سعة الكرامة الإنسانية نفسها.

فالكرامة لا تعني العصمة، بل تعني القابلية للترقي. ولو كان الإنسان لا يملك إلا طريق الخير قسرًا، لما كان للكرامة معنى، لأن الكرامة تفترض الحرية، والحرية تفترض إمكانية الخطأ. ومن هنا نفهم لماذا يصف القرآن الإنسان بأوصاف متقابلة: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، وفي موضع آخر {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. فالحديث ليس عن إنسانين، بل عن مسارين داخل إنسان واحد.

وهنا تتجلى دقة الرواية الواردة عن الإمام الباقر عليه السلام:

«كلّ شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان، وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو الكفر» (الكافي، ج2، ص387).

فهذه الرواية لا تعرّف الإيمان والكفر بوصفهما شعارات، بل بوصفهما اتجاهين وجوديين: اتجاه نحو التسليم لما تقتضيه الفطرة، واتجاه نحو إنكارها. وبذلك يصبح الإيمان حركة انسجام مع الكرامة الذاتية، بينما يصبح الكفر حركة تصادم معها.

فالإنسان لا يسقط لأنه خُلق ناقصًا، بل لأنه اختار أن يعطّل أعلى ما فيه. ولا يرتفع لأنه مميز جوهريًا عن غيره، بل لأنه فعّل ما مُنح له من عقل وإرادة وفطرة. وهذا هو المعنى الحقيقي للصعود والسقوط في المنظور الإسلامي.

الأحكام الشرعية ومسألة نجاسة الكافر:

الحكم الشرعي الذي يربط الكفر بالنجاسة لا يمس أصل الكرامة الإنسانية، فهو متعلق بالاختيار، لا بالخلقة. فالكافر مكرّم بصفته إنسانًا، ولكن اختياره للإنكار يترتب عليه آثار شرعية مؤقتة. الشيخ ناصر مكارم الشيرازي يوضح أن الإنسان له بعدان وجوديان: إذا خضع للتربية الإلهية، ارتقى؛ وإذا أعرض عن الحق، هبط إلى السفلين [تفسير الأمثل ج20 ص402]. وهذا لا يناقض كرمة الإنسان الأساسية، بل يظهر ارتباط المسؤولية بالاختيار.

الخلاصة:

ليست كرامة الإنسان في الإسلام شعارًا أخلاقيًا عاطفيًا، ولا حكمًا انتقائيًا يُمنح لفئة ويُسلب من أخرى، بل هي حقيقة وجودية تبدأ من الخلق، وتُستكمل بالاختيار. الإنسان مكرم لأنه إنسان، لا لأنه صالح، ومُحاسَب لأنه مختار، لا لأنه مجبور. ومن هنا، فإن الإيمان لا يخلق الكرامة من العدم، بل يحرّرها من التعطيل، بينما الكفر لا يمحو الكرامة، بل يحجب آثارها.

وحين نفهم هذا التوازن، تزول الإشكالات، ويتضح أن الأحكام الشرعية لا تُهين الإنسان، بل تُقيّم موقفه من ذاته العميقة. فالإسلام لا يصنّف البشر على أساس الأصل، بل على أساس المسار، ولا يغلق باب الارتفاع أمام أحد، لأن الكرامة الأولى لم تُسحب من أحد.

الإنسان في النهاية ليس ما وُلِد عليه فقط، بل ما قرر أن يكونه. وبين الهبة الإلهية والاختيار الحر، تتشكل أعظم قصة في الوجود: قصة كرامةٍ تُمنح، ومسؤوليةٍ تُكتسب.

اللهم كما كرّمتنا بالخلق، كرّمنا بالثبات، ولا تجعلنا ممن عطّلوا فطرتهم، ووفّقنا لاختيار ما يرفعنا إليك.

المصادر:

1. القرآن الكريم: الإسراء:70، الروم:30

2. تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج13 ص155

3. تفسير الرازي، ج21 ص15

4. نهج البلاغة، الإمام علي عليه السلام، ج3 ص84

5. الكافي، الإمام الباقر عليه السلام، ج2 ص387

6. تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج20 ص402

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى