
غسان بوخمسين
خلال تفاصيل حياتنا اليومية، نمرّ بعشرات المواقف التي نتلقى فيها خدمة ما؛ معاملة تُنجز، سؤال يُجاب عنه، طريق يُنظَّم، أو تعب يُبذل في صمت. ومع ذلك، غالبًا ما تكون أولى ردود أفعالنا هي الملاحظة، ثم النقد، وأحيانًا الشكوى. أما كلمة «شكرًا»، فتأتي متأخرة أو لا تأتي أبدًا. هكذا، وبهدوء، تراجعت ثقافة الشكر أمام اتساع ثقافة الشكاوى، حتى بات الامتنان استثناءً لا قاعدة.
ثقافة الشكر ليست مجرد سلوك اجتماعي لطيف، بل قيمة إنسانية ودينية عميقة. فقد ربط الإسلام الشكر بالإيمان، وجعله سببًا لاستمرار النعم وزيادتها، كما قال الله تعالى:
﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
فالشكر هنا ليس مجاملة عابرة، بل خلق يعكس وعي الإنسان واحترامه لغيره، ويدعو إلى التقدير المتبادل الذي يجعل المجتمع أكثر دفئًا وإنسانية.
مقدّمو الخدمات… الحلقة الأضعف
أكثر من يتأثر بغياب ثقافة الشكر هم مقدّمو الخدمات، مثل المعلّم، والطبيب، والممرض، وموظف الاستقبال، ورجل الأمن، وعامل النظافة، وسائق النقل؛ جميعهم جزء من تفاصيل يومنا، ولكننا نادرًا ما نتوقف عند إنسانيتهم. نراهم عند الخطأ، ونغفل عن الجهد المتواصل الذي يبذلونه في ظروف ضاغطة ومع توقعات عالية، وأحيانًا دون تقدير يُذكر.
لقد أصبحت الشكوى أسرع من الشكر، والصوت العالي أقرب من الكلمة الطيبة. نطالب بالخدمة بوصفها حق، وننسى أن أداءها يقوم به إنسان، يفرح للتقدير كما يتألم من الجحود. وكما قال الإمام علي عليه السلام:
“إذا وصلت إليكم أطراف النِّعَم فلا تُنَفِّروا أقصاها بقِلّة الشكر”.
التقييم… فكرة جيدة أفرغها غياب الشكر من معناها
لا شك أن تقييم الخدمة فكرة إيجابية في أصلها، وُجدت لتحسين الأداء ورفع جودة الخدمات وإيصال صوت المستفيد إلى الجهات المعنية. فالتقييم العادل يساعد على تصحيح الأخطاء، ويشجّع المتميزين، ويُسهم في التطوير المستمر. غير أن المشكلة لا تكمن في التقييم ذاته، بل في غياب ثقافة الشكر التي جعلت منه البديل الوحيد عن الامتنان الإنساني.
ومع الوقت، تحوّل التقييم إلى عبء نفسي على مقدّم الخدمة، خاصة حين يُربط بالمساءلة أو الخصم أو استمرار العمل. وفي ظل ندرة كلمات التقدير الصادقة، يجد بعض مقدّمي الخدمات أنفسهم مضطرين لطلب التقييم الحيادي أو الإيجابي، لا رغبة في المديح، بل خوفًا من الظلم أو سوء التقدير. وهنا يصبح الطلب مزعجًا للطرفين؛ للمتلقي الذي يشعر بالضغط، ولمقدّم الخدمة الذي يبدو وكأنه يطلب ما يفترض أن يُمنح تلقائيًا.
إن التقييم الرقمي، مهما كان منصفًا، لا يمكن أن يعوّض غياب كلمة شكر صادقة. فالأرقام لا تُشعر الإنسان بقيمته، ولا تعكس دائمًا حجم الجهد المبذول، بينما الامتنان الحقيقي يصل مباشرة إلى القلب. وحين تعود ثقافة الشكر إلى مكانها الطبيعي، يصبح التقييم أداة تطوير لا مصدر ضيق، ويختفي الشعور بالحرج، لأن التقدير عندها لا يُطلب… بل يُقدَّم.
ماذا نخسر حين يغيب الشكر
حين يغيب الشكر، يتراكم الإحباط، وتبرد العلاقات، ويؤدي العمل بلا روح. يشعر مقدّم الخدمة أنه غير مرئي، وأن جهده لا يُذكر إلا عند الخطأ. ومع الوقت، ينعكس ذلك على جودة الأداء، وعلى شكل العلاقة بين الناس، التي تصبح أكثر جفافًا وأقل رحمة.
ولا يعني هذا تجاهل التقصير أو التخلي عن حق النقد، ولكن الإنصاف يقتضي أن نرى الجهد قبل الخطأ، وأن نوازن بين الملاحظة والتقدير. فالكلمة الطيبة لا تُلغي المحاسبة، لكنها تجعلها أكثر عدلًا وإنسانية.
خاتمة
ثقافة الشكر ليست ضعفًا، ولا تنازلًا عن الحقوق، بل دليل وعي وإنصاف. وفي زمنٍ ارتفعت فيه الشكاوى، وبات التقييم رقمًا بلا روح، نحن بحاجة إلى استعادة الكلمة التي تُصلح ما لا تُصلحه الأنظمة: شكرًا. كلمة صغيرة، لكنها قادرة على إعادة الإنسانية إلى تعاملاتنا، والدفء إلى علاقاتنا، والاحترام إلى المجتمع كله.




