أقلام

رجب… حين يفتح الله باب التحوّل لا باب العادة

أحمد الطويل

مقدمة:

ليست كلّ الأيام سواء، ولا كلّ الأزمنة متشابهة، فبعضها يمرّ على الإنسان كما تمرّ الرياح، وبعضها يمرّ به ليوقظه. وشهر رجب من هذا الصنف الثاني؛ زمن لا يكتفي بأن يُضاف إلى أعمارنا، بل يريد أن يُعاد ترتيب أعماقنا. في بدايته لا نقف عند تاريخٍ جديد، بل عند نداءٍ خفيّ يقول للإنسان: إن أردت أن تتغيّر حقًا، فابدأ الآن، قبل أن تتكاثف عليك الأيام.

رجب ليس شهرًا يُستهلك، بل شهر يُصنع فيه الإنسان. ليس مقدّمة شكلية لرمضان، بل مرحلة إعداد داخلي، حيث تُصفّى النيّات، ويُختبر الصدق، ويُعاد تعريف العلاقة مع الله. ومن لم يفهم رجب، دخل رمضان بجسد حاضر وقلب غائب.

رجب زمن الصبّ الإلهي حين لا تكون الرحمة متساوية

في منطق أهل البيت عليهم السلام، الرحمة الإلهية ليست حدثًا عشوائيًا، ولا تُسكب على القلوب بالسويّة، بل تُصبّ حيث يوجد الاستعداد. ورجب هو شهر هذا الصبّ الخاص؛ صبّ الرحمة، وصبّ التوفيق، وصبّ إمكان التحوّل. ولكن الخطأ الشائع أن يُفهم هذا الصبّ على أنه آلي، كأنّ الزمن وحده كافٍ ليُغيّر الإنسان، بينما الحقيقة أن الزمن لا يفعل شيئًا إن لم يجد قلبًا مفتوحًا.

حين يقول الإمام الصادق عليه السلام: “رجب شهر عظيم، يضاعف الله فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات”، فهو لا يتحدّث عن معادلة حسابية، بل عن حالة وجودية. فالمحو هنا ليس محوًا شكليًا، بل إزالة لأثر الذنب من الروح، والمضاعفة ليست زيادة رقم، بل تعميق للأثر في الداخل. غير أن هذا كلّه مشروط: أن يكون القلب حاضرًا، والعقل متنبّهًا، والنية صادقة في طلب العودة.

ولهذا نجد أن رجب لا يعمل عمله في الجميع؛ فهناك من يمرّ عليه الشهر كما مرّت عليه سائر الشهور، وهناك من يشعر بأن شيئًا في داخله بدأ يتصدّع، وأن أسئلة قديمة عادت لتطرق بقوة: من أنا؟ إلى أين أتجه؟ ولماذا أعبد؟

هذا الصدع هو بداية الصبّ الإلهي الحقيقي، لأن الرحمة حين لا تُزعجك، لا تغيّرك.

رجب إذن ليس زمن عبور، بل زمن كشف. يكشف لك هشاشتك، ويكشف لك إمكان النهوض. هو شهر لا يطلب منك كثرة العمل، بقدر ما يطالبك بصدق الوقوف بين يدي الله، لأن من لم يُهَيَّأ في رجب، دخل المواسم الكبرى مثقلاً بالشكل، فارغًا من الروح.

رجب والولاية حين تتضح البوصلة

إذا تأمّلنا خارطة هذا الشهر، وجدنا أنها مشبعة برسائل الولاية. ففيه وُلد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في قلب الكعبة، وكأن الرسالة منذ البدء تقول: من أراد الدخول إلى التوحيد، فليدخل من بابه الصحيح. وفيه وُلد الإمام محمد الباقر عليه السلام، الذي فتح باب الوعي العميق بالدين، ونقل الأمة من حفظ النص إلى فهم المعنى. وفيه الإمام محمد الجواد، الذي كسر وهم العمر والسنّ، ليؤكد أن القيادة في هذا الخط اصطفاء إلهي لا معادلة بشرية. وفيه الإمام علي الهادي، إمام الهداية في زمن الالتباس، حين اختلطت الشعارات بالحقائق.

هذه الولادات ليست احتفاءً بالتاريخ، بل دعوة حاضرة: رجب شهر تصحيح الاتجاه، وتجديد العهد مع خط الإمامة، والعودة إلى الميزان الذي يُعرف به الحق من الزيف.

العمرة في رجب هجرة الداخل قبل حركة الجسد

من هنا نفهم سرّ ارتباط رجب بالعمرة. حين يقول الإمام الصادق عليه السلام إن العمرة في رجب أفضل من العمرة في شهر رمضان، فهو لا يقلّل من شهر رمضان، بل يكشف عن وظيفة رجب. فشهر رمضان شهر الأداء، أما رجب فهو شهر صناعة الإنسان القادر على الأداء.

فالعمرة ليست طواف أقدام، بل تحوّل مركز الوجود من الذات إلى الله. ولكنها لا تتحقق ما لم يسبقها وعي. ولهذا تبدأ الرحلة من المدينة، من الوقوف عند رسول الله صلى الله عليه وآله، لأن من لم يفهم صاحب الرسالة، لن يفهم مقصد العبادة. ومن لم يتعلّم القرب من النبي، لن يعرف معنى القرب من الله.

العمرة الرجبية ليست تكرارًا لشعائر مألوفة، بل امتحان للروح: هل تستطيع أن تتخفّف من ضجيج الداخل؟ هل تملك شجاعة الخروج من اعتياد العبادة إلى حضور العبادة؟

رجب والمبعث التجلّي لا يأتي صدفة

ونحن في رجب نسير نحو المبعث، لا بوصفه حادثة مفاجئة، بل ثمرة استعداد طويل. فالوحي لم ينزل على قلبٍ عادي، بل على قلبٍ تهيّأ بالتجرد، والصبر، والصدق. ولهذا ورد في أدعية هذا الشهر سؤال الله بالتجلّي الأعظم.

وقد فسّر العلماء هذا التجلّي بأنه حقيقة واحدة تتجلّى بصور متعددة: نور محمد قبل الخلق، وبعثته في عالم الناس، ومعراجه في أعلى مراتب القرب. والدرس واحد: الله لا يتجلّى إلا لمن استعدّ. التجلّي لا يُنتزع، بل يُستحق.

عمرة رجب مسؤولية الاختيار لا مجرّد أداء

في رجب، لا تُقاس العمرة بعدد الأشواط ولا بطول البقاء، بل بعمق القرار الذي يحمله الإنسان وهو يدخل هذا النسك. هنا تتقدّم العمرة من كونها عبادة مؤقتة إلى كونها اختبارًا حقيقيًا للاختيار الإنساني. فالإنسان في هذا الشهر يُستدعى ليُجيب عن سؤال صامت: هل أتيتَ إلى الله لأنك اخترته، أم لأنك هربت من شيء آخر؟

رجب يذكّر الإنسان بحقيقته الأولى: أنه كائن مختار، لا يُساق إلى القرب سوقًا، ولا يُجبر على الطاعة جبرًا. ولهذا فإن العمرة الرجبية تكشف أكثر مما تُخفي؛ تكشف مقدار صدقك مع نفسك قبل صدقك في أفعالك. قد يلبس الجميع الإحرام ذاته، ولكن القلوب لا تدخل بالحالة نفسها. هناك من دخل ببدنه فقط، وهناك من دخل وقد ترك وراءه شيئًا من ذاته.

في هذا السياق، تصبح العمرة موقفًا وجوديًا لا حركة شعائرية. فالطواف ليس دوران الجسد، بل إعادة تموضع القلب حول مركز جديد. والسعي ليس انتقالًا بين جبلين، بل اعتراف داخلي بأن الطريق إلى الله يحتاج جهدًا وصدقًا واستمرارًا. ومن هنا، فإن العمرة في رجب لا تصنع التحوّل بذاتها، بل تكشف مدى استعداد الإنسان للتحوّل.

رجب لا يَعِدُك بالتغيير، ولكنه يضعك أمام مرآتك. فإن اخترت الله بوعي، كانت العمرة بداية صعود. وإن اكتفيت بالشكل، بقيت في دائرة التكرار، مهما كثرت الخطوات.

الخلاصة:

رجب ليس شهرًا يُضاف إلى التقويم، بل لحظة فاصلة في سيرة الإنسان. هو زمن يعرض عليك الله فيه مشروع التحوّل قبل أن يعرض عليك ثقل التكليف. من هنا تبدأ الحكاية: إمّا أن تدخل هذا الشهر بعقليتك القديمة، فتخرج كما دخلت، أو أن تسمح له أن يعيد ترتيبك من الداخل، فتدخل ما بعده وأنت شخص آخر.

في رجب، لا يُسأل الإنسان: كم عملت؟ بل يُسأل: كيف حضرت؟ هل كنت حاضر القلب أم غائب الروح؟ هل أردت الله حقًا، أم أردت الطمأنينة المؤقتة؟

رجب لا يخدع أحدًا، لأنه لا يَعِدُ بالتغيير، بل يفتح بابه فقط، ويترك لك قرار الدخول.

من فهم رجب، فهم معنى الولاية، وفهم أن العبادة ليست حركة، بل اصطفاف وجودي مع الحق. ومن ضيّع رجب، فاته الأساس، وإن أكثر من الفروع.

إنه شهر يُختبر فيه الصدق قبل الطاعة، والوعي قبل العمل، والاستعداد قبل النزول إلى ميدان التكليف.

رجب هو سؤال الله المفتوح في وجه كل واحد منا: هل تريد أن تعود إليّ كما أنت، أم كما خُلقتَ لتكون؟

اللهم اجعل رجب شهر تحولنا، وافتح قلوبنا لقربك، ووفقنا للصدق في حضورنا، بحق محمد وآل محمد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى