أقلام

حين يشتدّ الحُب فيُصبح صوته قاسيًا

منهال الجلواح

في كل علاقةٍ تنبض بالحياة، هناك لحظة خفيّة يتغيّر فيها صوت القلب قبل أن تتغيّر الكلمات.

لحظةٌ يتداخل فيها الخوف مع الحب، فيرتفع الصوت لا ليجرح، بل ليحمي.

فالعاطفة حين تشتدّ لا تبحث عن الانتصار، بل عن الطمأنينة.

وحين يضيق ويختنق الصدر، ليس لأن الحب انتهى، بل لأنه يريد أن يبقى.

فنحن لا نشتدّ على البعيدين…

القسوة لا تُهدى إلا لمن يسكن القلب، ولا تُقال إلا لمن نخشى أن نفقده.

وهكذا، يصبح العتاب لغة أخرى للحب، ويصبح الصوت العالي محاولة يائسة لترميم شيء نخاف أن يتصدّع.

في عالم العلاقات الإنسانية، حيث تتجاور المشاعر كما تتجاور النوافذ في مدينةٍ لا تنام، تظهر ظاهرة تستحق التأمل: القسوة مع من يعيشون معنا أو بقربنا.

إنها تلك اللحظات التي يرتفع فيها الصوت، لا لأن القلب قاسٍ، بل لأنه ممتلئ.

فالقلوب حين تخاف… تشتدّ، وحين تحب… تعاتب.

القسوة هنا ليست نقيضًا للحب، بل إحدى صوره الأكثر قلقًا.

إنها اليد التي تُمسك بنا قبل السقوط، فنظنها تؤلمنا، بينما هي في الحقيقة تنقذنا من ألمٍ أكبر.

في العلاقات بين الناس، لا يُعاتَب إلا من نريده أن يبقى بجانبنا

الصمت هو إعلان الانسحاب، أما القسوة العابرة فهي محاولة لإعادة ترتيب وترميم العلاقة و المسافة، وتنظيف الهواء من الغبار العالق بين القلوب.

الخبراء يسمّونها “تصحيح مسار”، والشعراء يسمّونها “خوفًا من الفقد”، أما نحن فنشعر بها كنبضة زائدة في قلبٍ لا يريد أن يخسر.

إنها القسوة التي تشبه مشرط الطبيب:

تؤلم… لكنها تُنقذ.

العلاقات الإنسانية: مساحة دقيقة بين اللين والحزم

العلاقات لا تستقيم باللين وحده، ولا تنجو بالقسوة وحدها.

إنها تحتاج إلى قلبٍ يعرف متى يشتدّ، وعقلٍ يعرف متى يلين.

فالعتاب ليس حربًا، بل محاولة لإعادة بناء الجسر قبل أن ينهار.

وفي لغة الصحافة، يمكن وصف هذه القسوة بأنها “إجراء وقائي”، تمامًا كما تُتخذ القرارات الصعبة لحماية مستقبل مؤسسة أو فريق.

الآباء والأمهات: حين يكون الحزم امتدادًا للرحمة

لا أحد يجسّد هذا التوازن مثل الوالدين.

فهم يمارسون قسوة ظاهرها الشدة، وباطنها الرحمة.

يرفعون الصوت ليعلّموا، ويمنعون ليحموا، ويشدّدون ليبنوا إنسانًا قادرًا على مواجهة الحياة.

وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في سياق التكريم:

﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾

وفي دعاء يختصر فلسفة التربية كلها:

﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾

حتى لقمان الحكيم، وهو رمز الهدوء، خاطب ابنه بلهجة فيها شدّة تربوية:

﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ… وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ﴾

شدّة لا تُهين، بل تُهذّب.

قسوة لا تُطفئ، بل تُضيء.

حين تتحول القسوة إلى هدم

ليست كل قسوة محمودة.

فهناك قسوة تنشأ من ضيق النفس، أو رغبة في السيطرة، أو ضعف الحكمة.

هذه القسوة لا تُصلح علاقة، ولا تُربّي طفلًا، ولا تُهذّب روحًا.

إنها القسوة التي تُطفئ الحب بدل أن تحميه.

همسة أخيرة

في نهاية كل علاقة، وكل عتاب، وكل شدّة، يبقى شيء واحد لا يخطئه القلب:

أننا لا نشتدّ إلا على من نخاف أن نخسره.

وأن القسوة النابعة من الحب ليست قسوة، بل ارتباك لقلبٍ يحاول أن يحمي ما يحب بطريقته الناقصة.

فإن رأيت شدّة من قريب، فابحث عن الحب الخفي خلفها.

وإن شعرت بارتفاع الصوت، فاسمع ما يقوله الخوف لا ما تقوله الكلمات.

فأجمل العلاقات هي تلك التي تتسع لضعفنا، وتسامح ارتباكنا، وتفهم أن القلوب لا تتقن دائمًا التعبير… لكنها تحاول.

#مستشار تدريب وتطوير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى