
د. حجي الزويد
الاستغفار في شهر رجب: عبادة الوعي وتجديد الصلة بالله في موسم الرحمة
يحتلّ الاستغفار منزلةً محورية في البناء الروحي للإنسان المؤمن؛ فهو ليس مجرّد لفظٍ يُردَّد، بل موقف وجودي يعترف فيه العبد بضعفه، ويستعيد من خلاله صلته بالله تعالى على أساس الصدق والافتقار. وإذا كان للاستغفار هذا المقام في جميع الأزمنة، فإنّ له في شهر رجب خصوصيةً مضاعفة؛ إذ يُعدّ هذا الشهر من مواسم الرحمة الإلهية، ومحطّة أولى في مسار السير إلى الله، وتمهيدًا روحيًا لما يليه من شهري شعبان ورمضان.
ويُعدّ الاستغفار من أجلّ العبادات القلبية واللسانية، وهو في شهر رجب آكدُ أثرًا وأعظمُ بركةً، لما امتاز به هذا الشهر من سعة الرحمة وفتح أبواب التوبة والإنابة. وقد وردت في فضله نصوص شريفة تُبرز مكانة الاستغفار فيه، وتكشف عن آثاره العميقة في تطهير النفس، وتهذيب القلب، ونيل الرضا الإلهي، بما يجعل منه ممارسة واعية تُعيد ترتيب الداخل، لا مجرّد طلب للمغفرة اللفظية.
الاستغفار في شهر رجب: طريق الرضا الإلهي وأمان العاقبة
ورد في الحديث الشريف:
«من استغفر الله في رجب سبعين مرّة بالغداة وسبعين مرّة بالعشيّ يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، فإذا بلغ تمام سبعين مرّة رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي وتب عليّ، فإن مات في رجب مات مرضيًا عنه، ولا تمسّه النار ببركة رجب».(١)
هذا النص يكشف عن منهج تربوي متكامل؛ فاختيار الغداة والعشيّ يربط الاستغفار ببداية اليوم ونهايته، وكأنّ المؤمن يبدأ نهاره بالتوبة وينهيه بها، ليبقى في دائرة المراقبة والمحاسبة. وهذا يعلّم الإنسان أن الاستغفار ليس طارئًا بعد الذنب فقط، بل هو حالة دائمة من الوعي الروحي.
كما أنّ العدد المذكور (سبعين مرّة) ليس غاية حسابية، بل هو رمز للإكثار والمداومة، حتى يتجاوز الذكر مرحلة العادة إلى مرحلة الحضور القلبي. وعند اكتمال الذكر، يأتي رفع اليدين بالدعاء: «اللهم اغفر لي وتب عليّ»، ليعبّر عن انتقال الاستغفار من صيغة فردية إلى مناجاة صريحة، ومن ذكر اللسان إلى طلب القلب.
وأمّا الثمرة، فهي من أعظم ما يرجوه المؤمن:
الموت مرضيًا عنه، وهو تعبير عن القبول الإلهي، وحسن العاقبة، والطمأنينة عند الرحيل من الدنيا. ثم تأتي البشارة الثانية: «ولا تمسّه النار ببركة رجب»، لتؤكّد أن هذا الشهر ليس زمانًا عاديًا، بل وعاء رحمة تتنزّل فيه آثار المغفرة على نحو خاص.
الاستغفار في شهر رجب: الذكر الجامع بين التعظيم والتوبة الواعية
ويكتمل هذا المعنى بما ورد من الحثّ على الإكثار من الاستغفار في هذا الشهر، كما ورد في المفاتيح:
أن يستغفر ألف مرّة قائلاً: «أستغفر الله ذا الجلال والإكرام من جميع الذنوب والآثام». (٢)
هذا الذكر الجامع يجمع بين تعظيم الله بأسمائه وصفاته، والاعتراف الشامل بالتقصير، ما يجعله استغفارًا واعيًا لا يقتصر على اللسان، بل ينفذ إلى أعماق النفس.
هذا الذكر يحمل أبعادًا معرفية عميقة؛ فهو يبدأ بتعظيم الله بصفة الجلال والإكرام، ثم يعترف بشمولية الذنوب والآثام، ما يرسّخ في النفس التواضع والانكسار، ويمنع الاستغفار من أن يتحوّل إلى كلمات مجرّدة. كما أن تكراره ألف مرّة يدرّب النفس على الصبر والمجاهدة، ويجعل التوبة سلوكًا راسخًا وليس انفعالًا عابرًا.
وتتجلّى عظمة هذا العمل في الثمرة التي رُتّبت عليه؛ فالموت مرضيًا عنه غاية كل مؤمن، وهي تعبير عن القبول الإلهي وتمام العناية، فضلًا عن الأمان من النار، الذي يُجسّد أقصى مراتب النجاة. وليس ذلك إلا ببركة هذا الشهر، الذي جعله الله موسمًا للتوبة والرجوع إليه.
الاستغفار في رجب: مدرسة التوبة وبوابة التحوّل الروحي نحو القرب الإلهي
إن هذه الأعمال تُبيّن أن الاستغفار في شهر رجب ليس مجرد تكرار لفظي، بل هو مشروع إصلاحي للنفس، يُعيد ترتيب العلاقة مع الله، ويزرع في القلب الطمأنينة والرجاء. وهو دعوة مفتوحة لكل مؤمن أن يجعل من هذا الشهر محطة تصفية روحية، وبداية جديدة في طريق القرب والطاعة، على أمل أن يكون من المشمولين بالرضا والمغفرة والرحمة
إنّ الاستغفار في شهر رجب ليس فقط طلبًا لمحو الذنوب الماضية، بل هو إعادة بناء للإنسان من الداخل، وتنقية للقلب، وتهيئة روحية للانتقال إلى مراتب أعلى من القرب الإلهي. فمن دخل رجب مستغفرًا، خرج منه أخفّ حملًا، وأصفى قلبًا، وأقرب إلى الله، مستعدًا لاستقبال شعبان ورمضان بروح جديدة وعهد متجدّد.
وهكذا يتحوّل شهر رجب إلى محطة مراجعة، ومدرسة توبة، وجسر عبور من الغفلة إلى اليقظة، ومن التراكمات الثقيلة إلى الرحمة الواسعة، ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾
هوامش:
(١) (٢) مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي – أعمال شهر رجب




