
أمير بوخمسين
لماذا يتقدم غيرنا بينما نظل نحن ندور في الحلقة ذاتها؟ الفارق الجوهري ليس في الإمكانات، بل في العقل الذي يديرها. الغرب يفكر بمنطق المصلحة، يخطط، يقيس، يراجع، ويطور أدواته بلا حرج. أما نحن، فما زلنا ندير أوطاننا بعقلية اللحظة ورد الفعل. في العالم العربي، التخطيط غالبا مؤقت، مرتبط بالأشخاص لا بالمؤسسات. تتغير الإستراتيجيات بتغير الحكومات، وتلغى المشاريع لأن من أطلقها غادر المشهد.
لا توجد رؤية عربية طويلة المدى لبناء الإنسان، ولا مشروع حقيقي للعلم والتنمية، رغم أن معظم الدول العربية تنفق مليارات الدولارات سنويا دون أثر واضح على جودة التعليم أو البحث العلمي.
الغرب يوظف السياسة والإعلام والاقتصاد والمعرفة ضمن منظومة واحدة تخدم هدفًا محددًا، القوة والتقدم. الإعلام هناك يصنع الوعي العام ويدعمه بالمعرفة، بينما الإعلام العربي، في معظمه، مستهلك للصراعات، مهووس بالجدل، ومنشغل بتضخيم الخلافات بدل توجيه المجتمع نحو أسئلة التنمية والنهضة. السياسة عندهم إدارة مصالح، وعندنا إدارة أزمات.
في الوطن العربي، ما زالت الجامعات منفصلة عن سوق العمل، والبحث العلمي يُنظر إليه بوصفه مظهرًا أكاديميًا، لا ضرورة وطنية. نخرج آلاف الشهادات سنويا، ولكننا لا نبني اقتصاد معرفة. والنتيجة واضحة.. هجرة العقول العربية إلى الغرب، حيث تحترم الكفاءة، ويستثمر العقل، بينما تهمل الكفاءات في أوطانها أو تحارب.
الأخطر من ذلك كله أن العقل العربي يعيش تحت سقف فكري وعقائدي خانق. لا تزال ثقافة الخوف من السؤال سائدة، وينظر إلى التفكير النقدي على أنه تهديد لا ضرورة. كثير من مجتمعاتنا خلطت بين الدين كقيمة أخلاقية عليا، وبين توظيفه لقمع العقل ومنع الاجتهاد. هكذا تحول الدين في أيدي البعض من محرك حضاري إلى أداة تعطيل.
في المقابل، لا يتردد الغرب في مراجعة أفكاره، ولا يخجل من الاعتراف بالأخطاء. إن دول مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية أعادت بناء نفسها بعد دمار شامل، لأنها امتلكت فضيلة النقد، وربطت التعليم بالصناعة، والعلم بالاقتصاد. أما في عالمنا العربي، فما زلنا نختلف حول البديهيات، ونختلف أكثر حول من يملك حق التفكير. وحق إصدار القرارات، وتنفيذها، نعم، الغرب لا يريد لأمة عربية موحدة وقوية أن تنهض. هذا منطق السياسة الدولية. ولكنه لم يمنعنا من بناء مؤسسات قوية، ولم يفرض علينا تهميش العلماء، أو التضييق عليهم، ولم يجبرنا الغرب على تحويل الخلافات الفكرية إلى معارك وجود. نحن من استسلمنا لفكرة المؤامرة كبديل عن العمل، وللخطابة بدل التخطيط.
فمتى نتحرر نحن من عقلية الضحية؟ متى ننتقل من تبرير الفشل إلى محاسبته؟ متى نؤمن أن النهضة لا تبدأ بمواجهة الخارج، بل بإصلاح الداخل؟.
التحرر العربي الحقيقي يبدأ حين نعيد الاعتبار للعقل، ونفصل بين المقدس والاجتهاد البشري، ونضع العلم في قلب المشروع الوطني، ليس على هامشه. أن الأوطان لا تُبنى بالشعارات، ولا بالعاطفة، بل بالمعرفة، وبالعقل. العالم لا ينتظرنا، والتاريخ لا يرحم المتأخرين.
وإن لم تبدأ النهضة العربية من داخل العقل العربي، فلن تبدأ أبدا. هذا ليس جلدا للذات، ولا انتقاصا من قيمتنا أو تاريخنا، بقدر ما هو غيرة صادقة على أمتنا العربية، ورغبة حقيقية في استعادة موقعنا الطبيعي بين الأمم. نقدنا لأنفسنا هنا ينبع من حبنا للنهضة، ومن إيماننا بأن العقل العربي قادر على الريادة إذا تحرر من القيود التي أوقفت تطوره.
ما نحتاجه هو الوعي، التخطيط، والعمل الجاد، لنصنع نهضة عربية حقيقية، تُقدّمنا لا تؤخرنا، وتؤسس لمستقبل نعود فيه إلى الريادة التي طالما كانت حقنا.




