
السيد فاضل آل درويش
يمثّل شهر رجب البوابة الأولى لأهل المعرفة والسير إلى الله تعالى في خُطى الإيمان وبناء النفس أخلاقيًّا وروحيًّا، فهو ليس مجرد مناسبة زمنية تشكّل صفحة في تقويم التاريخ يمر عليه الإنسان مرور الكرام، بل هو ميدان يغترف من مدرسته القيمية ما يُثري شخصيته ويظهر على شكل سلوكيات تليق بإنسانيته واللائق بتكريمه بالعقل الواعي. ويأتي هذا الشهر الكريم ليُلقي بظلاله على علاقة الإنسان بربه وضخّ روافد تقوّيها، فالعبادات بمختلف أشكالها تنسج معالم الوعي والنضج والنظر الحذِر وترقّب النتائج لكل ما يصدر عنه، وكذلك على المستوى السلوكي تمتزج تصرفاته بمدرسة القيم الأخلاقية الرفيعة، فأي فائدة يجنيها الفرد من بساتين شهر رجب أعظم من مسيره في طريق الهداية والاستقامة، فمن أحسَن استثمار هذا الشهر جعل منه نقطة تحوّل حقيقية في حياته ومسارًا تصاعديًّا نحو الكمال الإنساني والقرب الإلهي؛ لتكون ثماره حاضرة في الفكر والسلوك والوجدان بنحو تقويم مستمر طوال العام.
يمثّل شهر رجب محطة روحية ومعرفية مهمّة في مسيرة الإنسان الإيمانية، إذ يُعدّ من الأشهر الحُرم التي اختصّها الله تعالى بفيض من الرحمة والبركة كما تظافرت بذلك الروايات الشريفة المبيّنة لمكانة شهر رجب الروحية، وجعلها سبحانه ميدانًا لإعادة بناء العلاقة معه على أساس الوعي وتهذيب النفس من الرذائل الأخلاقية والسلوكيات غير المقبولة، فهو فرصة لإعادة ترتيب الأولويات وتصحيح مسار النفس والانفتاح على القيم الإلهية التي تُحيي القلب وتمنحه معنى الوجود الحقيقي.
ويؤكد علماء التربية والأخلاق على أن السلوكيات لا تعتمد صفة الاستمرارية والترسّخ دفعة واحدة وبشكل فجائي غير مسبوق، فالقيم الإلهية التي يدعو إليها الدين كالصدق والإخلاص والتواضع والعدل لا تُغرس في النفس دفعة واحدة بل تحتاج إلى مواسم تربوية تُهيّئ القلب لتلقّيها وشهر رجب من أبرز هذه المواسم، ففي هذا الشهر تتجلّى الدعوة الإلهية للتوبة والرجوع الصادق والوقفة الجادة لمحاسبة النفس وتبيّن الأخطاء وأوجه التقصير، كما في الروايات الشريفة التي تصفه بأنّه شهر الاستغفار حيث يُطلب من الإنسان أن يقف مع ذاته وقفة محاسبة فيراجع أفعاله ومواقفه وعلاقاته ، ويُعيد بناء شخصيته على ضوء رضوان الله تعالى لا على أساس الأهواء والمصالح الضيّقة.
والتقرّب إلى الله تعالى في شهر رجب لا ينحصر في كثرة العبادات الشكلية فحسب دون النظر التأملي في القيم والمقاصد الداعية لتبلورها في شخصية الإنسان، بل يتجلّى القرب الحقيقي في مسار عمق الوعي بمعانيها فالصلاة والصيام المستحب والأدعية والمناجاة والاستغفار كلّها وسائل لتربية النفس وتهذيب السلوك و تحرير الإنسان من أسر الغفلة، فالعبادة في هذا الشهر ينبغي أن تتحوّل إلى مشروع تربوي متكامل يستهدف مجمل جوانب شخصية الفرد الأخلاقية والمعرفية والاجتماعية، هدفه أن يخرج من مدرسة شهر رجب أكثر صفاء وأكثر قدرة على مجاهدة نفسه في شهر شعبان وأكثر استعدادًا لاستقبال شهر رمضان وما بعده بروح واعية وقلب حيّ ينبض بالقيم الأخلاقية والروحية.




