
أحمد الطويل
مقدمة:
الإيمان سؤال الوجود لا شعار اللسان. ليس الإيمان كلمة تُقال عند الطمأنينة، ولا شعارًا يُرفع عند الحاجة، ولا حالة عاطفية عابرة تولد في لحظة خشوع ثم تخبو. الإيمان، في حقيقته العميقة، هو السؤال الأكبر الذي يواجه الإنسان: كيف أعيش؟ ولماذا أعيش؟ وعلى أي أساس أختار مواقفي وقراراتي؟ قد يؤمن كثيرون بوجود الله، لكن القليل فقط يعيشون الإيمان كحقيقة حاضرة في القلب، موجِّهة للعقل، ومنعكسة في السلوك. وهنا يكمن الفرق بين إيمان يُحفظ في الذهن، وإيمان يُصنع في الحياة.
حقيقة الإيمان: من الاعتقاد إلى التحقّق
في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لا يُختزل الإيمان في المعرفة العقلية وحدها، ولا في المشاعر القلبية وحدها، ولا في الممارسات الظاهرة وحدها. بل هو وحدة متكاملة بين ثلاثة أبعاد: عقل يعي، وقلب يصدّق، وعمل يُجسّد. يقول الإمام الصادق عليه السلام: “الإيمان ما وقر في القلب وصدّقته الأعمال”.
وهذه العبارة تختصر فلسفة كاملة: فالإيمان الذي لا يتحوّل إلى فعل، يبقى فكرة معلّقة، والإيمان الذي لا يسكن القلب، يبقى سلوكًا آليًا، والإيمان الذي لا يمرّ عبر العقل، قد ينحرف أو يُستغل.
الإيمان والوعي: حين يستيقظ القلب
الإيمان الحقيقي ليس حالة سكون، بل حالة يقظة. إنه الذي يوقظ الإنسان من غفلته، ويمنحه القدرة على رؤية الأمور بعمق لا بسطحية. فالمؤمن لا يعيش الأحداث كما هي فقط، بل يسأل عن معناها، وموقفه منها، ومسؤوليته تجاهها. ولهذا، لا يمكن للإيمان أن ينمو في قلبٍ غافل، أو عقلٍ مشغول عن الحقيقة. الإيمان يطالب بالوعي، لأن الوعي هو الحارس الذي يمنع الإيمان من التحوّل إلى عادة أو طقس فارغ.
الإيمان والفلسفة: علاقة الإنسان بالكون
من المنظور الفلسفي، الإيمان هو الجسر الذي يربط الإنسان بالكون. فالكون ليس فوضى، بل نظام دقيق، وكل حركة فيه تشير إلى حكمة. الإيمان يمنح الإنسان القدرة على قراءة هذا النظام لا كمجرد مشاهد، بل كمشارك واعٍ فيه. المؤمن لا يشعر بالاغتراب في هذا العالم، لأنه يرى نفسه جزءًا من مشروع إلهي أوسع، له دور، وله مسؤولية، وله مكان. وبهذا المعنى، يصبح الإيمان مصدر طمأنينة، لا لأنه يهرب من الواقع، بل لأنه يفهمه.
الإيمان حين يتحول إلى وعي و سلوك
الإيمان، في جوهره، ليس حالة شعورية معزولة، ولا فكرة ذهنية معلّقة في فضاء التفكير، بل هو وعيٌ حيّ يبدأ من القلب، يمرّ بالعقل، ويُترجم في السلوك. فالقلب هو موضع الاستقبال، والعقل هو أداة الفهم والتمييز، والعمل هو الشاهد الصادق على ما استقرّ في الداخل.
كثيرون يخلطون بين الإيمان والعاطفة، فيحسبون أن لحظة خشوع أو دمعة صادقة تكفي لصناعة المؤمن، بينما الإيمان الحقيقي أعمق من ذلك بكثير. إنه حالة وعي دائم، يُعيد للإنسان قدرته على رؤية الأشياء كما هي، لا كما يشتهيها أو يهرب منها. فالإيمان يوقظ العقل من السطحية، ويحرّر القلب من الغفلة، ويمنح العمل معنى يتجاوز العادة والتقليد.
ولهذا، لا يمكن لإيمانٍ غائب الوعي أن يصمد أمام الفتن، ولا لإيمانٍ بلا عقل أن يميّز بين الحقّ وشعاراته، ولا لإيمانٍ بلا عمل أن يُحدث أثرًا في حياة الإنسان أو المجتمع. الإيمان الحيّ هو الذي يجعل صاحبه مسؤولًا عن اختياراته، حاضرًا في قراراته، واعيًا لنتائج أفعاله، لأنه يرى الله حاضرًا في كل موقف، لا غائبًا خلف الطقوس.
حين يتحوّل الإيمان من قناعة إلى موقف
الإيمان يُختبر حين يتحوّل من فكرة مريحة إلى موقف مكلف. فالقناعة يمكن أن تبقى حبيسة الداخل، لكن الموقف يكشف حقيقتها عند أول امتحان. هنا يظهر الفرق بين من يؤمن بالحق، ومن يكتفي بالإعجاب به.
في لحظات الضغط، حين تتعارض المصلحة مع المبدأ، وحين يصبح الصمت أكثر أمانًا من الصدق، يتقدّم الإيمان ليُجيب عن السؤال الأصعب: هل أنت مستعد لأن تدفع ثمن ما تؤمن به؟ الإيمان الذي لا يغيّر موقع الإنسان عند الشدّة، يبقى ناقصًا مهما بدا جميلًا في الكلام.
التاريخ الإنساني مليء بأمثلة تؤكد هذه الحقيقة: لم يكن الانحراف يومًا بسبب غياب المعرفة، بل بسبب غياب الشجاعة على تحويل الإيمان إلى موقف. فكم من أناس عرفوا الحق، لكنهم تراجعوا عند أول تهديد، وكم من آخرين صدّقوا به، فاختاروا الوقوف معه ولو كلّفهم ذلك الكثير.
الإيمان حين يبلغ تمامه، لا يكتفي بأن يُقنع صاحبه، بل يدفعه للاصطفاف الواعي مع الحق، مهما تغيّرت الظروف، لأن الموقف هنا ليس ردّة فعل، بل تعبير صادق عمّا يسكن القلب.
الإيمان كرحلة لا كنقطة وصول
الإيمان ليس حالة تُنجز مرة واحدة، بل مسار متصاعد. يبدأ بالقبول، ثم يتحوّل إلى تصديق، ثم ينضج في العمل، ثم يُصقل بالابتلاء. وكل مرحلة تكشف للإنسان مقدار صدقه مع الله ومع نفسه. كلما ازداد الإيمان عمقًا، ازداد الإنسان صبرًا، واتسعت رؤيته، وارتقى سلوكه. فالإيمان ليس إضافة إلى الحياة، بل هو ما يعطي الحياة معناها.
الخلاصة:
الإيمان ليس ما نعتقده حين نكون آمنين، بل ما نختاره حين نُختبر. ليس ما نقوله عن أنفسنا، بل ما تفضحه مواقفنا عند المفترق. هو رحلة تبدأ بالقبول، وتنمو بالوعي، وتكتمل حين يصبح الحقّ خيارًا ثابتًا لا صفقة مؤقتة.
كلّ إيمان لا ينعكس وعيًا، يظل هشًّا. وكلّ وعي لا يُترجم عملًا، يبقى ناقصًا. الإيمان الحيّ هو الذي يعيد للإنسان وحدته الداخلية، فيجعل قلبه صادقًا، وعقله يقظًا، وخطوته ثابتة. وحينها فقط، لا يكون الإيمان زينة روحية، بل قوّة تغيير.
نحن لا نُسأل يومًا: هل عرفت الحق؟ بل: ماذا فعلت به؟ وهل كان إيمانك جسرًا تعبر به نحو الله، أم فكرة جميلة تركتها خلفك عند أول اختبار؟
اللهم ارزقنا إيمانًا يسكن قلوبنا، ويهدي عقولنا، ويظهر في أعمالنا، ولا تجعل إيماننا قولًا بلا أثر، ولا معرفةً بلا التزام، بحق محمد وآل محمد.




