
يوسف أحمد الحسن
تؤثر الأنساق الثقافية – بوصفها مجموعة أنظمة وقيم ومعتقدات وعادات ورموز متوارثة أو مختلقة مرتبطة بكل مجتمع- على سير حياة الناس بشكل مباشر أو غير مباشر، وتحدد وتوجه خيارات المجتمع وقراراته اليومية في مختلف الأمور، كما تؤثر على قراراته الاستراتيجية ومدى تقدمه أو تخلفه، وتنظم علاقة أفراده بالعالم المحيط، وهي بالتأكيد تؤثر على خياراته القرائية، بل وأصل القراءة نفسها وأهميتها. وقد أعطاها الدكتور عبد الله الغذامي أهمية كبيرة حين وصفها بأنها ذات “قوة وسُلطة وهيمنة”.
ولكن هل يمكن أن تؤثر القراءة على الأنساق الثقافية وتغير فيها، ما ينعكس بدوره على تأثير هذه الأخيرة على الناس؟
يبدو أنه يمكن ذلك إما بشكل مباشر أو غير مباشر. ولكن، ولأن الأنساق هي نظام خليط ما بين المعلن والخفي، ويتبعه الناس بوعي وبغير وعي، وهي التي تنظم علاقة أفراد المجتمع بالعالم المحيط؛ فإنه يصعب تحديد مساحة تأثيرها ومن ثم تغييرها. فحينما يربط النسق الثقافي مثلًا نجاح الفرد في حياته بمستواه الدراسي، ويَعُد كل ناجح دراسيًّا هو أيضًا ناجحًا اجتماعيًّا؛ فإن الناس سوف يظلون معتقدين بذلك، ولن يستطيع أحد تغييره إلا بشق الأنفس، وكذلك الأمر مع سائر السلوكيات والأنشطة، وحتى أنماط التفكير.
ورغم أن لفظة الأنساق غالبًا ما تستخدم في مجالات النقد الأدبي وعلم الاجتماع والدراسات الأدبية عامة؛ فإنها تتداخل وتؤثر وتتأثر بما حولها من أنشطة، ومن ضمنها القراءة والكتابة، وهي أيضًا السبب الذي دعا الدكتور الغذامي – الذي كتب ونظّر كثيرًا في هذا الموضوع – إلى تسميتها أنساقًا ثقافية لا أدبية.
وكما أن الأنساق الثقافية والاجتماعية تؤثر في القراءة؛ فإن القراءة تستطيع ذلك أيضًا على مدى زمني أطول، وربما حين يكون مخططًا لها أن تكون كذلك. فكما تحدد الأنساق ما يجب وما لا يجب قراءته، فإن القراءة- من خلال أدواتها وأسلحتها الذاتية- تستطيع أن تحدث تأثيرات وتغييرات في بنية هذه الأنساق، وذلك بالبدء بتغيير العادات الصغيرة؛ من منفّرة من القراءة أو منحازة إلى نوعيات بعينها (مثلًا)، إلى مرغِّبة فيها ومنفتحة على مختلف الثقافات والآداب العالمية، إما بالأمر الواقع أو عبر الأدوات العلمية والتقنية التي تفرض نفسها على المجتمع. ومن هذه الأدوات التلفاز والإنترنت وأدواتها المتشعبة؛ كوسائل التواصل الاجتماعي، حين يتم استغلالها على الوجه السليم من أجل تشجيع الناس على قراءة أكثر فائدة وفي اتجاه إيجابي، واستثمارها بحيث تكون رافعة ثقافية تقدم المعرفة للناس بأساليب جاذبة. كما يمكن للقراءة رفع قيمة القراءة في الذهنية الجمعية من مجرد هواية إلى قيمة عليا في المجتمع، عبر آليات متنوعة، منها تفكيك بعض الأنساق المضمرة، التي يمكن أن تُعد غير سوية أو معيقة للتنمية.. فمثلًا حينما تَعُدُّ بعض المجتمعات القراءة مضيعة للوقت تستطيع بعض وسائل القراءة (نصية أو مسموعة أو مرئية مثلًا) أن تفند ذلك، مؤكدة دورها البَنّاء في الحياة، وربما حتى خلق أنساق جديدة تعلي من قيمة القراءة وترفع من شأن الكاتب والمثقف والكِتاب، كما هو شأن بعض الأمم المتقدمة، وذلك حين يتم ربط التقدم بالقراءة النوعية، ثم توجيه المجتمع إلى النوعيات التي يمكنها أن تخلصه من الأغلال التي تقيد حركته، دافعة إياه إلى مزيد من التطور والانعتاق من أي واقع سلبي يعيشه. ويمكن القيام بذلك أيضًا عبر عملية متواصلة من الكتابات والأعمال الأدبية والثقافية على مدى طويل وبأساليب حديثة.
ولا يمكن أن نعد هذه مجرد أمنيات أو خيالًا، فذلك ما حدث ويحدث باستمرار، حيث تساهم بعض الكتب في تغيير عادات وقيم ورموز (أنساق) بعض المجتمعات، دافعة إياها نحو آفاق أكثر رحابة في التطور العلمي والأخلاقي معًا، حين تعلي مثلًا من قيمة العمل والانضباط مقابل قيم بالية كالكسل وحب الراحة والركون إلى الراهن من السلوكيات السلبية.
هي إذن علاقة دائرية وليست خطًّا مستقيمًا بين القراءة والأنساق الثقافية؛ فالأنساق تحدد أهمية القراءة ومساحة تأثيرها، والقراءة تعيد بدورها تشكيل أو إعادة بناء الأنساق، أو تخلق أخرى جديدة، متسلحة بالتطورات التكنولوجية والفضاء الرقمي السائد في السنوات الأخيرة.




