قراءتي في كتاب (احسائيون مهاجرون) للشيخ محمد علي الحرز

علي الوباري
واقع الحاضر ونتائجه لأي مجتمع ينبئ عن ماضيه، فعلم الانثرولوجيا يدرس الإنسان اجتماعيًا وثقافيًا وما يبرز على سلوكه وآثاره المادية في تاريخ مسيرته الحياتية، حتى لو انتقل أو تغيرت جغرافية ومكان سكنه، فإنه يحمل عاداته وتقاليده التي تعزز هويته وتؤكد قيمه الجماعية خصوصًا إذا كان يملك خلفية تاريخية عريقة وتراثًا متراكمًا يعتد به كما هم أهل الأحساء يلاحقهم موروثهم الاجتماعي والثقافي أينما حلوا.
أتذكر ما قاله المفكر العربي المغربي صاحب مشروع العقل العربي محمد عابد الجابري في محاضرته بعنوان (إعادة ابتكار العقل العربي) في مارس ٢٠٠٩ بالنادي الأدبي بالأحساء عن سبب اختياره الأحساء لتقديم محاضرته بأنها منطقة مرتبط تاريخها بالنخلة، فأهلها أصحاب حضارة وموروث جدير بالتقدير.
إحدى علامات ذكاء الإنسان اختيار موقع سكنه واستقراره، واستدامة بقائه تعتمد على خصائص تلك الأرض التي يسكنها وأهم أسباب النمو فيها الماء والزراعة والموارد الطبيعية، فالإنسان عنوان تلك الجغرافية المسكونة وشخصية ساكنها تحمل خصائص تلك الأرض.
اهتمام الباحث الشيخ محمد علي الحرز يصب في هذا المعنى، ويسلط الضوء على الأحسائي المهاجر يدرس ثقافته ويربط علاقته الشخصية بغيره بعد هجرته في أماكن جغرافية بعيدة ومختلفة قبل توحيد الوطن، الأحسائي المهاجر حمل معه ما يعزز تاريخ مسيرته وترك بصماته وآثاره في الدول والمدن التي هاجر إليها.
اهتمام الشيخ محمد علي الحرز بجمع أسماء العوائل وتراث العلماء والشخصيات الفاعلة المهاجرة، أثرى التاريخ العائلي والاجتماعي والعلمي الأحسائي بمعلومات كانت مغيبة عند الغالبية، بتقادم السنيين تختفي المعالم وتتبدل العادات والتقاليد والثقافة وينقطع حبل الموروث الاجتماعي وتحدث القطيعة المعرفية إذا لم توثق في كتب وتنشر.
النشاط الكتابي الذي تبناه الباحث الشيخ محمد الحرز الذي تحول إلى مشروع مستدام ومثبت في الكتب وانتشر في دول الخليج والعراق وأصبح اسم الباحث الحرز مرجعًا في التراث الأحسائي، بل حضور اسمه في الأمسيات الثقافية وتدشين الكتب التراثية ضروري حتى أصبح المؤلفون يستشهدون بما قام به في نبش التراث الإنساني الأحسائي مع جهود بعض الباحثين والمهتمين، سعى بمشروعه في الحفريات المعرفية كما يسميها ميشيل فوكو، فمشروع الباحث الحرز المعرفي في الشخصية الأحسائية لا يستغنى عنه.
الحفر المعرفي للحقب الزمنية التي عاشها الأحسائي في هجرته وتنقلاته حتى وصلت إلى دول أفريقية للتجارة تشير إلى تاريخ اجتماعي أحسائي ضارب جذوره في الأرض، يتكيف فيها المهاجر الأحسائي ويحمل إرثه الثقافي مثل العلم الديني والموروث الاجتماعي المهني والحرفي.
تداول اسم الشيخ محمد علي الحرز في المحافل الثقافية بشؤون التاريخ التراثي والاجتماعي والعلمي لم يأتِ من فراغ بل رسالته في الكتابة بتاريخ الأحساء الحوزوي والثقافي والاجتماعي تطلب جهدًا كبيرًا بسبب ندرة المراجع المكتوبة وتشتت المصادر البشرية في مناطق مختلفة، استعان الشيخ الحرز في جمع المعلومات بالاتصال الشفاهي والهاتفي والألكتروني مع البحث في بعض الكتب والوثائق النادرة.
التحقيب التاريخي للعوائل الأحسائية وتوثيق ملامحها ومظاهرها تفيد الباحث، بحيث يتعرف على بعض المظاهر الاجتماعية والملامح الاقتصادية في فترات زمنية لها طبيعتها وظروفها.
يكتب الشيخ محمد الحرز في كتابه (أحسائيون مهاجرون) “من يتوغل في التاريخ الأحسائي المهاجر، يعطي الباحث أفاقًا متعددة في الدراسة والكتابة أعتقد لم أوفيها حقها”.
في كتابه (أحسائيون مهاجرون- الشيخ محمد علي الحرز ) الذي يتكون من ٤٠١ صفحة،طبعة ٢٠١٠ وفصوله الثلاثة يسلط الضوء على الشخصية الأحسائية وأسباب هجرتها وما تركته من آثار علمية، فبعضهم بلغوا مرحلة الاجتهاد وأسسوا مكتبات وقاموا بالتأليف، بل بعض العلماء المجتهدين تم تقليدهم.
يذكر الكاتب الحرز في كتاب أحسائيون مهاجرون ” أن الشخصية الأحسائية لا تجد جهدًا كبيرًا في الانسجام مع متطلبات المجتمع الجديد والتفاعل مع تركيبته الاجتماعي”، فالذكاء الاجتماعي والمرونة من سمات الشخصية الناجحة التي يتسم بها أهل الأحساء تجعلهم يتكيفون مع البيئات المختلفة ويمارسون حياتهم بالجد والاجتهاد، يتأقلمون مع البيئات الاجتماعية المختلفة ويحققون أهدافهم.
يردف الشيخ محمد الحرز في كتابه (أحسائيون مهاجرون) “وإذا كان حديثنا عن المجتمع الأحسائي فإنه يعد من أكثر شعوب الجزيرة العربية قابلية للهجرة” .
ولكن يبقى الحنين للوطن يؤرقهم، كما يصور الشاعر علي الرمضان في قصيدته:
وبالأحساء وهي مناي قوم بعادهم نفى عني رقادي.
الهجرة من الأحساء قبل مئات السنيين لها دوافع شخصية وعامة، خصوصا لدولتين العراق وإيران، والقاسم المشترك بينهما طلب العلم الحوزوي ودوافع شخصية ودينية واقتصادية معيشية كما يذكر الباحث الحرز.
في الفصل الأول من الكتاب بعنوان القبائل والأسر الأحسائية المهاجرة يكتب الشيخ الحرز، صعوبة حصر العوائل والشخصيات البارزة التي هاجرت بسبب تغير الأسماء حتى بعض الأسماء امتزجت مع أسماء عوائل إيرانية مثل عائلة المحسني إلى (محسني) لأنها استقرت في مدن إيرانية تتحدث الفارسية، ولكن المدن الناطقة العربية فمن السهل التعرف عليها ومعرفة جذورها مثل مدينتي عبدان والمحمرة الإيرانيين اللتين سكنتها عائلة الأجود المتفرعة منها أسر مثل آل مانع، وآل عقيل، والأربش.
في هذا الفصل أيضًا ذكر بالتفصيل العوائل التي هاجرت إلى العراق، هذه الهجرة فيها من الأسباب المعروفة لأن النجف الأشرف وكربلاء المقدسة مدينتان لهما خصائص دينية وعلمية وليس بغريب الهجرة لتلك المدينتين، طلبًا للعلم وبعض الأسر لها جذور وامتداد نسبي وأقارب سابقون، وبعض العوائل تسكن للأجر والثواب ،كذلك الهجرة إلى البصرة طلبًا للاستقرار ويفضلها البعض لتشابه بيئتها الزراعية مع الأحساء وما تزال أعداد كبيرة من العوائل في البصرة ولهم وضعهم العلمي والتجاري.
أيضًا الهجرة إلى إيران ولا سيما مدينة عبادان والمحمرة والدورق ومدينة كرمنشاه القريبة وقرى عديدة مجاورة للعراق، إلى حد الآن العوائل الأحسائية مستقرة فيها حتى بعضها اختلطت وذابت مع العوائل الإيرانية.
يفرد الباحث الحرز في الفصل الثاني بعنوان الفكر الأحسائي المهاجر إسهام الأحسائيين في نشر الإسلام مثل إرسال المكاتيب وبعث المبلغين، ويورد مثال على نشر الإسلام بواسطة التجار الأحسائيين كما هو في الصومال ودخول أهلها الإسلام، وكان للازدهار الزراعي والتجاري بالأحساء تأثير على من جاورها في زمن الدولة العصفورية، حتى ينسب الباحث في تأسيس مدينة مقديشو سنة ٦٥٠ هحري للأحسائيين لتكون محطة لخدمة التجارة كما يذكر المفكر أنور الجندي، وذكر دول أخرى في أفريقيا كان لتجار الأحساء يد فاعلة في التطور التجاري مثل كينيا وجزر القمر.
في الفصل الثاني أيضًا، يعرج المؤلف الحرز على نساخي الكتب وهي مهنة احترفها نساخون مشهورون أمثال الشيخ إبراهيم المفتي والشيخ أحمد بن إبراهيم آل عبد علي والسيد حسن بن سيد حسين الحداد نسخ (الرسالة المنجية من الهلكة) تأليف الشيخ عمران السليم العلي.
بسبب اهتمام ووعي شيوخ وعلماء الأحساء كان لهم دور في نشر العلم وتأسيس مكتبات في مدن هجرتهم، بل بعض الأسر لها دور محوري وعلمي مركزي وكانت أسباب قوتهم اجتهادهم العلمي حتى أنهم أسسوا مكتبات عبرت عن غزارة علمهم، احتوت المكتبات كتبا نفيسة ومخطوطات قيمة أصبحت مرجعًا بحثيًا، مثل مكتبة آل المحسني مؤسسها الفقيه الشيخ أحمد بن الشيخ محمد المحسني بمنطقة الفلاحية بالدورق في منطقة خوزستان بإيران عام ١١٤٧هجري، مكتبة المحسني وهو أحد مؤلفيها وعلماء آخرين تجمعت فيها كتب على مدى سنوات عديدة، وذكر الباحث ما احتوته المكتبة من نفائس. كذلك مكتبة آل السيد خليفة بالنجف الاشرف تأسست عام ١١٩٥ هجري وهي الأشهر بين المكتبات الأحسائية الخارجية استفاد منها الشيخ الطهراني ومؤسسها السيد خليفة بن السيد علي الموسوي القاري ص١٣٩، يذكر الطهراني أنها انتهت ببيع محتوياتها في مزاد علني عام ١٣١٧ هجري.
مكتبة أخرى مهمة هي مكتبة آل الصحاف ولا تتوافر معلومات عنها إلا ما ذكره الشيخ كاظم الصحاف، مؤسسها الشيخ محمد الشيخ حسين الصحاف المتوفى ١٣١٣ هجري، بداية تأسيس المكتبة بدولة الكويت.
ويكمل الباحث الحرز بالفصل الثاني عوامل انتقال المخطوطات الأحسائية بسبب هجرة العلماء، والدولة العثمانية ساهمت في نقل الكتب والمخطوطات، يذكر مثال على نقل الموروث العلمي المكتوب النادر مثل (الوسيلة في شرح العقيلة للسخاوي)، وبعض الكتب انتشرت بالخارج بسبب عملية الإهداء وتم وقفها ونقلها إلى خارج الأحساء، ويكمل عن أسباب انتشارها بالخارج على أهميتها، ضمتها المكتبات المركزية الكبرى مثل مكتبات اسطنبول وجامعة طهران.
هناك مكتبات مشهورة بالعراق احتوت على مخطوطات أحسائية وكذلك في مكتبات عديدة بالعراق وإيران وتركيا والهند وحتى دول أوروبية مثل ألمانيا وإنجلترا وأمريكا.
في الفصل الثالث من كتاب أحسائيون مهاجرون بعنوان من رموزنا العلمية المهاجرة يذكر العلماء المهاجرون البارزين أمثال (ابن أبي جمهور لم يذكر بالكتاب)، ولكن بدأ بأبرزهم الشيخ أحمد زين الدين العلامة الأوحد(١١٦٦-١٢٤١هجري) مع ذكر مؤلفاته، وكذلك الشيخ أحمد بن محمد المحسني من أهالي القرين، والشيخ حسين المزيدي الأحسائي البصري والسيد محمد باقر الشخص، وغيرهم الذين لا يتسع لذكرهم، آخرهم الشيخ محمد بن علي البغلي المتوفي ١٢٤٥ هجري وهو شاعر ومن شعره:
مهاة أعارت ظبية البيان جندها وعلمت الميل المثقف والغصنا
تعلقها قلبي فخالط حبها
دمي فجرى دمعي عليها دما أقنا.
أخيرًا، الباحث الكاتب مبثوث في كتاباته ونصوصه ويترك بصماته الثقافية وما يكتبه يكشف عن اهتمامه الشخصي في الكتابة وتعبر عن رسالته المعرفية مثل الباحث الشيخ محمد علي الحرز الذي منح جائزة الشيخ محمد الهاجري للعطاء العلمي ٢٠٠٧، وكرم في ملتقى جواثا الأول بالأحساء عام ٢٠٠٩ .
اهتم الشيخ الحرز بالعلم الحوزوي الأحسائي لدراسته الحوزوية، وتخصصه الأكاديمي باللغة العربية وحسه العلمي البحثي يدفعانه إلى الاهتمام بالكتابة عن الهجرة وتنقل الأحسائيين وعلمهم وثقافتهم وتجارتهم.كذلك المسؤولية الذاتية للباحث اعتبر من الواجب توثيق التراث الاجتماعي والثقافي، وغيرته على تاريخ الأحساء جعلته يقدم ما يستطيع البحث عنه وتدوينه ونشره.