جا يكحلها عماها حين يتحول الإصلاح إلى كارثة!

عماد آل عبيدان
في قاعة المسرح الكبير للحياة، يلعب بعض الناس دور البطل المتهور الذي يصرخ:
“دعوني أصلح الخطأ!”
فما إن يُسمح له بالتدخل، حتى يتحول المشهد إلى ملهاة مأساوية، ضحكٌ من فرط البكاء، ودموعٌ من شدة الضحك.
“ جا يكحلها عماها”…
هذا المثل الشعبي القصير، يلخص قصة ملايين المحاولات البائسة التي خاضها بنو البشر وهم ينوون الخير، ففتحوا على أنفسهم أبوابًا للجحيم لم تكن في الحسبان!
دعونا نبحر مع بعض النماذج الواقعية:
• الأب الذي يحاول أن يصالح ابنه مع زوجته، فيهمس للابن بنصيحة سريّة: “شد حيلك وخلك رجال”… فتفهم الزوجة من بعيد أن أهل الزوج يريدون كسرها، فتقوم قيامتها ويصير البيت كأنه ساحة معركة!
• أو ذاك المدير الذي يحاول أن “يحل الخلاف” بين اثنين من الموظفين، فيستعرض قضيتهما في اجتماع عام، ليصبح الخلاف فضيحة، وتنشأ قضايا جديدة لم تكن على الخريطة أصلًا!
• أو ذاك الصديق الذي يريد أن يرقّع كذبة لصديقه… فيكذب كذبة أكبر، فينكشفان معًا، كاشفين للجميع أن الصداقة عندهم تعني “ التآمر الخبيث في وضح النهار!”
كل هؤلاء جاؤوا بنية الإصلاح، ولكنهم…
“جا يكحلها عماها!”
– السؤال العميق هنا: لماذا يحدث ذلك؟
لأن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي.
لا بد من عقل، وحكمة، وفهم عميق للموقف قبل أن تمد يدك.
الإصلاح ليس كما يظن بعضهم عملية رتيبة أشبه بتعديل ربطة العنق أمام المرآة… إنه علم وفن ومهارة تحتاج إلى حنكة قائد سفينة وسط إعصار.
شاهد آخر من الواقع الاجتماعي:
كم مرة سمعت عن “مُصلح اجتماعي” حين جاء ليُصلح بين عائلتين متخاصمتين، بدأ يستعرض “تاريخ الخصومات” بالتفصيل الدقيق، حتى أعاد للأذهان جروحًا كادت تندمل، فأشتعلت النيران مرة أخرى؟
يُقال إن أحدهم، حين جاء ليحل خصام جيرانه، انتهى الأمر بأنه طُرد من الحي كله وأصبح حديث المجالس:
“ فلان جاء يطفئ الحريق، فزاد البنزين فوق النار!”
وهاك درسًا مهمًا جدًا:
الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى أن تمشي فوق الكلمات كما يمشي الراقص فوق الحبال… توازن دقيق بين الصراحة واللطف، بين الجرأة والحذر، بين التذكير بالنِعم ونسيان الإساءة.
ليس كل من رفع شعار “سأصلح” هو أهلٌ لذلك.
فهناك من لا يحمل سوى المطرقة ويظن أن كل مشكلة هي مسمار يحتاج للضرب العنيف!
بلمسة فكاهية أخرى:
أحيانًا تشعر أن بعض المصلحين يشبهون ذاك الذي يريد تنظيف النظارة، فيمسحها بطرف قميصه المليء بالدهون… فيجعلها أكثر عتمة وتشويشًا!
فتصبح النظارة (والرؤية) أسوأ مما كانت عليه.
الفرق بين الإصلاح والتخريب الناعم، خيط رفيع للغاية:
• المُصلح الحقيقي: كالطبيب الجراح، يعرف متى يشق الجرح ومتى يخيطه.
• المفسد باسم الإصلاح: كالطفل الذي وجد أداة الجراحة وظن أن الجراحة مجرد “لعب تشريح” دون فهم ولا تقدير.
والخلاصة الذهبية هنا:
لا تحاول أن “تكحلها” وأنت لا تملك “أدوات الإصلاح” الحقيقية: الوعي، الحكمة، الصبر، والنزاهة.
فالإصلاح، يا صديقي، ليس لعبة تحكمها النوايا فقط، بل تحكمها البراعة والرؤية والفهم العميق للنفس البشرية وتعقيداتها.
و أخيرًا:
في زمن كثرت فيه المحاولات العشوائية للإصلاح، لا بد أن نعي أن كلمة “أصلحوا بينكم” ليست مجرد شعار نرفعه، بل مسؤولية ضخمة، تحتاج إلى “ *فن الحفر الذكي*” في النفس قبل أن تحفر قبر المودة دون قصد!
فلا تكن ممن…
“جا يكحلها عماها!”
بل كن ممن يصلح بخفة ظل، وبعقل راجح، وبروح جميلة تجعل الناس يحبون العودة للمحبة كما يعود النهر لمجراه بعد عاصفة.