طريق الحلم بين المرقدين: خطوات في حضرة التاريخ والحنين

رباب حسين النمر
تسير على قدميك راجلًا بين أزيز السيارات، تشحذ مدية إصرارك، وتسنّ سكين إرادتك لتذبح بها شاة التراجع، أو تنحر بها ثور التكاسل.
تحملق في اللوحات الإرشادية لتقتنص الأرقام، وتداعب وجهك نسائم ليلة مدينية حالمة، تختلط فيها روائح النعناع والحبق بالورد المحمدي.
وكلما أوغلت في الطريق الأزرق المخطوط على رصيف المشاة، قلّ عدد السالكين!
حذاؤك يعينك إن كان مخصصًا للمشي، فيحملك كمركب آمن، ويترك رجليك تتحركان بحرية دون أن يضغط على عضلة أو كاحل أو رباط.
بداية الطريق، وعلى يسارك “مجمع طيبة”، تبهرك الإضاءات والتجمعات البشرية، ودكاكين صغيرة تؤنس بداية المسير، تصطف جنبًا إلى جنب في الشارع المؤنسن.
يعلو كل منها ضوء يحمل ملامح دولة شرق آسيوية مختلفة، أو محال بيع القهوة حيث رائحتها النفاذة تشق أنفك.
ولكنك تتركها وتمضي، فلا تريد الانشغال بغير الأفكار التي ستداعبك في الطريق، ولن تسمح أن يؤخر مسيرتك انشغال برشفة قهوة!
يكفيك قطع التقاطعات التي تقف كالفخاخ بين الأرصفة، وتفاجئك حينها السيارات والحافلات المندفعة بسرعة وتهوّر.
هناك، بين قبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله ومقام سيد الشهداء الحمزة، يمتد شارع روحيّ مخصص للمشي بين الموقعين.
وفي الليالي الهادئة والأجواء المعتدلة، يمكنك قطع الطريق في مدة زمنية قد تستغرق ساعة فأقل!
وحين يهمس الطريق الليلي الهادئ في أذنيك دروسًا مليئة بالأفكار والتجاذبات، يتداخل الزمان،
فتغدو الخطوات على الإسفلت الأزرق كأنها آثار أقدام على تراب المعركة،
فتستحضر ليالي المدينة المنورة في حقبة النبي صلى الله عليه وآله، وتوشوش لك بظروف معركة أحد.
هل تطابقت خطواتي بخطوات الجنود السائرين إلى أحد؟
وثمة حكايات يرويها الشهداء بأحرف الفداء، وكيف أكرم الله الشهيد بتحويل خطوات الساعين إليه إلى عمل عبادي،
وتحول المشي والحركة إلى ساعات تأملية، وربما تنتظر الواصلين جوائز ربانية وهدايا لم يكونوا بها يحلمون.
الشهيد اندلق دمه على التراب، وأخذه وحشي بغتة لتشتفي هند.
ولم تشتفِ حينما بقرت بطنه، وقطعت أنفه وأذنيه، وصنعت منهما قلادة تلتف حول رقبتها،
ولاكت مضغة من كبده فحوّلها الله إلى حجر لفظته، لئلا تستقر قطعة من جسد الشهيد بمعدة كافرة نتنة!
يا الله! كم تحمل الرمال من دماء وبكاء!
وكم من صمت في الطريق يروي فجيعة لم تندمل!
كيف أوجعت تلك التفاصيل الدموية قلب رسول الله صلى الله عليه وآله؟
كيف احتضنت عيناه جسد عمه الحمزة، رفيق طفولته وصباه وشبابه، وأخاه في الرضاعة؟
وقد تركته هند ممزقًا، مقطعًا، مُمثّلًا به تمثيلًا لا يُفعل في الكلب العقور!
وكلما سارت بك الأفكار، دفعت قدميك للتقدم، فتنسى اللوحات ولغة الأرقام، وتبقى سائرًا بين أسطر التاريخ!
تتخيل أنفاس الزهراء عليها السلام وهي تسير على هذا الطريق يوم الاثنين، لتصل إلى عمها تبكيه،
وتصنع من تراب قبره مسبحة تستعين بها في أدبار الصلوات،
وتعود مرة أخرى يوم الخميس لتكرر الزيارة ذاتها.
أفكار كثيرة كانت تدور في الدماغ، فتحرك الرجلين وتدفع بهما إلى الأمام،
في مدينة لا تعرف الغفلة.
تمشي فيها وحدك، ولكنك أبدًا لست وحيدًا