أقلام

طريقة القراءة جسر إلى لياقة الحوار.. قراءة في كتاب طريق الحوار

علي الوباري

قضايا عديدة مألوفة عند الناس يكتب ويتحدث عنها يوميًا، ولكن حين يسلط عليها الضوء بعناوين ومضامين مختلفة تتجاوز المألوف وتصبح قضية كبرى مثل قضية (القراءة) التي أصبحت أزمة عند العربي بعد انخفاض مستوى القراءة في الوطن العربي لأسباب عديدة -لا مجال لذكرها- ولكن الكاتب يوسف الحسن تبنى هذا المشروع في سبيل تحقيق ١٠٠٠ مقال سيكتبها، وهذه دلالة واضحة على أهمية القراءة بالنسبة للحسن وهو تحدٍّ له، يسعى إلى إنجازه مستهدفًا الترويج للقراءة والتشجيع عليها. أصدر الحسن الجزء الأول من كتابه بعنوان (لياقة القراءة) في مائة مقال، وكتاب آخر بعنوان ( م ق ج ) مستمرًا في مشروعه الثقافي المهم.

كُتب الكثير على أهمية القراءة عربيًا وعالميًا حتى أصبحت القراءة أحد مؤشرات الدول المتقدمة، وتشير إلى جودة الحياة في المجتمعات.

إن أفضل وسيلة دعائية وجذب للتشجيع على القراءة من قبل الكاتب أن يكون معروفًا أنه قارئ نهم، فينقل للقراء والمثقفين حصيلة قراءته بالكتابة، وأن تكون قراءته أضعاف ما يكتب، يقول الحسن “فكنت أحيانًا أقرأ عدة كتب حتى أوفي العنوان حقه؛ فمن ذلك مثلًا أني قرأت 400 صفحة من أجل كتابة 400 كلمة”.

الكتابة هي مولود القراءة التي تبين حصيلة وثقافة الكاتب القارئ، بدورها هذه الحصيلة الكتابية تتحول إلى معين وغذاء ثقافي للقارئ المتلقي يعني حلقات اتصال وتواصل إلى الأمام ومنتج معرفي متطور يثبت به الكاتب شخصيته الثقافية بالكتابة، ويمكن أن نجعل القراءة هواية وشغف بين أفراد المجتمع إذا تجاوزنا محطة أن تكون القراءة نشاط فردي فقط، يكتب الحسن عن القراءة “تتجاوز القراءة كونها نشاطًا فرديًّا حين يتناغم القارئ مع قرّاء آخرين في جانب آخر ربما من الكرة الأرضية وهم يقرؤون الكتاب نفسه”.

القراءة هي رسالة القارئ، يحمل مسؤولية النصوص المكتوبة حين يكتبها المؤلف ويتركها بين يدي القارئ ليتفاعل معها بالتقييم والنقد والتغذية المرتدة ويستفيد منها أو يولد منها أفكارًا تفيده، فالنصوص المكتوبة بمثابة وثيقة معاهدة بين الكاتب والقارئ يعود لها القارئ بين فترة وأخرى للتحليل والتفسير والتأويل تنضجه وتعزز ذاته بل يعتبرها القارئ نصوص مكتوبة منفصلة عن المؤلف كما كتب رولان بارت في مقاله المشهور بإعلان “موت المؤلف ” حين القراءة والنقد والتأويل.

الكتاب خزينة معرفية يفتحها الفرد بالقراءة فيتزود ويتغذى القارئ بالكلمات والمعاني، ورحم يلد كاتبًا ومفكرًا وعالمًا وشاعرًا يحملون رسالة إعادة إنتاج المعرفة ويقدمون الإبداع.

لن أدخل في فلسفة وفوائد القراءة فهي بديهية، والكاتب الحسن أشبع الموضوع بما يكتب في مشروع الألف مقال بدأها بكتابه الأول (لياقة القراءة- مائة مقال) مع كتاب ومهتمين كثر، ولكن باختصار أقول بالرغم أن من يعد القراءة هدفًا ذاتيًا يشعره بنفسه وأن ما يحمله من معلومات وثقافة يعدها كنزًا يتفاخر بها مع ذاته، لأن القراءة تكسبه صداقة متينة مع الكتاب كما يقول المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب.

يكفي من القراءة أنها تثبت وجوده وهو اعتزاز بالذات تقدمه للمجتمع كصاحب قوة مؤثرة بالمعلومات، أن يشعر القارئ أنه في قلب الثقافة وأنه يعيش بين الصفحات يتغذى على حروف المعرفة كأنه يعيش وسط العالم بكل لغاته بل ينبغي يقول (أنا اقرأ أذن أنا موجود)، حين تكون القراءة اكتشاف العالم واتصال بكل ما تقرأ عنه من طبيعة وجمال وصناعة، ستكون القراءة هي الوسيلة للاحساس بالوجود.

القراءة هي حوار مع الكتاب وحوار مع الكلمات وحوار مع الجمل والتأويل التي تجعل القارئ يسبح في أعماق معاني النصوص.

يكفي من القراءة أن تجعل القارئ يحاور نفسه، ومن يحاور نفسه بأفكار جديدة يكتمل حين يجيد الحوار مع غيره، بل أعتقد أن من لديه هواية القراءة تكون لديه رغبة الحوار أو تؤدي به القراءة إلى (لياقة الحوار).

هذا ما أردته من المقدمة عن القراءة، إجادة (الحوار) مع الآخر الذي به يتكامل الإنسان مع أخيه الإنسان بالتفاعل، وأحيانًا بالمعارضة الفكرية لإنتاج جواهر ولآلى فلسفية ليستمر الحوار مع الطبيعة والكائنات وتكتمل رسالة الإنسان بالإبداع والابتكار لعلاج خلل وسد نقص يعاني منه الإنسان.

إذن، القراءة طريق إلى الحوار وكم تمنيت من المؤلف أن استبدل عنواني كتابيه (طريقة القراءة) و(لياقة الحوار) وهي قراءتي في كتاب الحسن (طريق الحوار)، الحوار يبدأ بين الأم وجنينها في الرحم والأبوين في البيت الأسري ويرتقي الحوار إلى مستويات أسمى بالقراءة والمعرفة بين الأفراد والأمم والحضارات تبرز بالحوار.

مسيرة الإنسان التي بنيت على الحوار مع الطبيعة عندما احتاجها ليكمل كفاحه، يحرث الأرض ويعمرها، وجد صعوبة في الحوار مع من حوله بسبب عوائق مثل حواجز اللغات وفهم إشارات الكائنات وعلامات الطبيعة، ولكن حين تزود بالمعرفة والعلم بواسطة القراءة وإتقان لغات متنوعة وصل إلى الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي وابتكر علومًا مثل الإنثروبولجيا وعلم الأديان وعلم الآثار.

بدأ الإنسان حواره بفك طلاسم النقوش والرموز على الصخور حتى اكتملت لديه القراءة بالحوار مع الطبيعة بمعرفة ما يفيد البشر واستثمار موارد الأرض الطبيعية.

بدأ حوارًا عنيفًا بتطويع الطبيعة حتى ردت عليه بقوة بآثار سلبية مثل الاحتباس الحراري واختلال التوازن البيولوجي والتلوث فأعاد الحوار مع مكونات الحياة حين استزاد بالقراءة العلمية وبدأ يتحاور مع عناصر الطبيعة بهدوء بعد أن تيقن بأهميتها وضرورة عناصرها في اكتمال حياته وبها يعيش بسلام وأمان.

في كتاب يوسف الحسن (طريق الحوار:نظرات من أجل العبور) وهو مجموعة مقالات كتبها بصحف يتكون الكتاب من ١٧٩ صفحة طبعة ٢٠٢١، عنوانه الرئيس الحوار بتفرع اسباب الحوار الناجح ،يدور الكتاب حول الحوار البناء الموضوعي الذي يتجرد من الأنا ويتخلص من حمولة الذاتية الذي تدفعه نحو توكيد الذات والانحياز لآرائه المسبقة ويحرف الأدلة والشواهد في سبيل الانتصار على الآخر، سواء كان طرفي الحوار شخص أو جماعة.

يكتب الحسن “فالحوار هو أكثر كلمة تتعرض للظلم”، وفي أحد أقوال الحسن يكتب عن أن أسلوب الحوار في تحويله حوارًا ايجابيًا مثمرًا “يمكن أن تصل إلى نتائج إيجابية لو تغير أسلوب الحوار أو كانت هناك أجواء من المحبة والود بين أطرافه”، فحتى نصل إلى حوار له نتائجه المفيدة للطرفين ينبغي قراءة ذواتنا، وقراءة الذات لا تتحق إلا بقراءة الآخر من خلال ما يكتب أو يؤلف، أو قراءة مباشرة لأقوال الشخص وسلوكياته، أو من خلال نصوصه.

الكتاب يشير ضمنًا أو صراحة أحيانًا إلى أن طرفي الاتصال يتبادلان المواقع ويعكسا رسالتهما أي المرسل يضع نفسه موقع المستقبل، والعكس صحيح، تبادل المواقع يساعد على الفهم واستيعاب الرسالة المشتركة بأداة مفهومة.

الحوار نجاحه يبدأ بالقصدية وبالصمت وحسن الإصغاء وقبول رأي الآخر، وإذا تراكمت الحوارات تتضح القواسم المشتركة بين المتحاورين هذا ما يلاحظ في موضوع مطروح للنقاش والحوار تخرج من بين ثناياه القواسم المشتركة أكثر من نقاط التعارض والنفور إذا ابتعد الطرفان عن النرجسية خصوصًا النرجسية حب الذات وتعزيز الأنا التي لا ترى الآخر كما يسميها المؤلف في ما كتب بهذا الخصوص.

كما يتطرق الكاتب الحسن إلى فضاء أوسع مثل حوار الحضارات الذي بدأ بصراع الحضارات، ولكن ما ينتج علميًا وثقافيًا في الواقع يعد في ذاته حوار حضارات لأن المنتج المعرفي العالمي يتلاقفه المفكرون والفلاسفة ويتفاعلوا معه بالتبادل والاستفادة.

اعتقد بعد الترجمة الفورية في أدوات التواصل الاجتماعي، وبفضل شبكة الإنترنت بدأ الحوار الثقافي والفكري عن بعد بإدارة الذكاء الاصطناعي في الترجمة وتوصيل الأفكار بأية لغة، وهذا ما أشار إليه المؤلف في الحوار الرقمي.

الحوار الرقمي ستتضح نتائجه وفوائده بعد سنوات إذا هيمنت الأجهزة الذكية بتطبيقاتها الرقمية وتفعلت بواسطة الذكاء الاصطناعي بشكل أوسع، سيقرب المفردات والمفاهيم في الحوار.

يفرد الحسن سبع مقالات عن حوار الأديان، وهذا الحوار منذ أن بدأ بين الأديان السماوية لم ينقطع وفي القرآن تعزز المفهوم المشترك بين الناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات آية ١٣، يتعزز الحوار حين تستزيد من القراءة لتطلع على الأديان وثقافة الشعوب لتصل إلى حوار مجد وهادف.

إذن الحوار أخذ طريقًا للتفاهم والقبول ينتهي بالتعايش كما أشار إليه الحسن في ست مقالات لأن عوامل الوفاق وعناصر المصالح المشتركة أكثر من نقاط الخلاف، يعملون بشراكة في البناء الذاتي والتنمية الوطنية.

يواصل الحسن إعادة إنتاج معرفته نتيجة قراءاته المتعددة، ويذكر نماذج في الحوار مثل وثيقة نوسترا إيتاتي وهي إعلان تصالح الفاتيكان مع الأديان عام ١٩٦٥.

بالرغم أن المؤلف وسع مفهوم الحوار بين الأديان والدول وأن هناك بين البشر مصالح تقتضي الاتفاق عليها مثل التطور العلمي والمصالح الاقتصادية، إلا أن من ينضج الحوار هي القراءة المتأنية الواعية يقصد من قراءته أن يرى فوائدها وآثارها في الحوار والتفاهم والتسامح والتعايش.

القراءة المقصودة بأهداف واضحة تزيل أسباب عوائق الحوار مثل الانتصار الشخصي والتعصب للرأي الشخصي والنتيجة المسبقة، القراءة المتنوعة والعميقة تفتح العقول وتهئ اسباب التقارب والانسجام، سعة الاطلاع والقراءة المتنوعة بلغات مختلفة تكشف للقارئ حياة القادة الناجحين والمخترعين والمبدعين وتمنح تجارب عن شعوب تتكلم عدة لغات ومعتنقة أديان مختلفة، ولكنها عاشت بالتفاهم والانسجام بواسطة الحوار في سبيل التكامل والتنمية المستدامة، بعد مئات السنين من وفاته ظل ابن رشد يتحاور مع قرائه وناقديه وهم يحاورونه بقراءة نصوصه للاستفادة والنقاش.

وما يزال نعوم تشومسكي يقرأ من خلال كتبه وتقرأ تجربته بالمقابلة والحوار وقدم فكرًا وفلسفة بعد أن أجهد نفسه بالقراءة وأصبحت لياقته للحوار مع كل القراء والمثقفين بلغات مختلفة عندما أبدع في اللسانيات. ولا يكتمل حوار موضوعي وبناء إلا بالقراءة لأن بالقراءة يسمو المرء ويتعالى على نفسه متجردًا من ضغوط الأنا وقيود إثبات الذات.

اختيار الحسن موضوعين من أهم المواضيع الضرورية بحياة الفرد وهما القراءة والحوار ناتج عن قراءات وتجارب للمؤلف توصل بها إلى أسباب ثقة الإنسان بنفسه وتقديره لذاته وشعوره بالقوة المعنوية لتكون له رسالة سامية في المساهمة الاجتماعية والثقافية ولا تتحق إلا (بقراءة) عميقة تؤدي إلى (حوار) ناضج هادئ وهادف ينتهي بالتسامح والتعايش، هذا ما طبقه المؤلف الحسن قرأ وأجاد الحوار بالكتابة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى