أقلام

ما بين الفرد والمجتمع مقومات للنضج 

كميل السلطان

في مدرسة الحياة تتنوع المواد الدراسية وتكثف المناهج والمقررات وتكثر فيها الحصص، الحياة باعتبارها مدرسة تمتلك نظامًا شموليًا يعطي لكل مقرر ومرحلة حقها في التعليم، لذا فإن النجاح فيها لا يمكن أن يكون سهلًا، فضلًا عن التفوق، جميعنا نعيش لنتعلم ونتعلم لنتطور، وهذا الأمر ملحوظ وبشدة من خلال تغيير كثير من أنماط الحياة في واقعنا، فما هو موجود سابقًا لم يعد موجودًا الآن، ربما لقلة الحاجة إليه في الوقت الراهن أو بسبب وجود بديل أثبت كفاءته عن سابقه، وما هو مقبول سابقًا فهو مرفوض الآن لاعتبارات وأحكام ومتغيرات كثيرة.

والحال هو أيضًا تجده في كثير من العادات الشخصية التي تتغير بسبب مؤثرات التعليم والتجارب والخبرات وغيرها، وهناك ما هو أكبر من ذلك وهي التغييرات الاجتماعية التي يتفق أو يضطر المجتمع على استبدالها بعادات اخرى إما بسبب اكتشاف المجتمع بأن العادات السابقة كانت غير نافعة، وإنما كانت متواجدة بسبب جهل المجتمع أو تخلفه أو بسبب ظرف ما كان يعيشه المجتمع آنذاك، فمع تطور الحياة وثورة العلم غيرت كثير من المجتمعات مفاهيمها و عاداتها ولربما تقالديها وهذه نقطة البداية.

استبدال المجتمع لوتيرة معيشته إن كانت راكدة ولا تناسب المرحلة هذا دليل على أن ذلك المجتمع مجتمع متعلم واعٍ، ولكن تراجع المجتمع بإحلال ما هو جديد من شأنه تعقيد وتيرة الحياة، وذلك يعكس انحدار المجتمع وتخلفه، وعلى مستوى الفرد فإننا نعيش ثورة التغيير المستمر في سلوكياتنا وأنماطنا المعيشية وأفكارنا وكذلك معتقداتنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فنجد أننا نعش هذا الصراع بين ما نؤمن به وما نعتقده وما نتمناه، والنتيجة محكومة بنضج الفرد في تبني أي تغيير تصل إليه قناعاته.

والسؤال هنا: ماهي دلالات نضج الفرد التي بناء عليها يحدث تغيير داخلي على مستوى قناعاته وأفكاره؟ ومن ثم يتبعها تغييرًا اجتماعيًا بطبيعة الحال لأن أي تغيير يحدث على مستوى الفرد فإنه ينعكس على مستوى المجتمع.

قبل استنتاج أية إجابة لا بد أن نقييم بعض المعطيات فبطبيعة الحال قلما نجد شخصيات باستطاعتها تحقيق نجاحات في مجالات كثيرة ومتنوعة، ودائمًا ما نلحظ أن نجاح شخصية ما يتحقق في مجال معين بحكم اختصاصه ربما في ذلك المجال، أو حبه وميوله الذي يدفعه للنجاح بذلك الاتجاه، وغالبًا ما نخلط أو نعمم نحن الحكم على الآخرين، فالطبيب الحاذق نعكس نجاحه في اختصاصه على كل مجالات الحياة والمهندس المبدع تذهب بنا السبل بأنه عبقري في كل حياته وهكذا، بينما الأمر لا يعدو نجاحًا في اختصاصه، وإن معترك الحياة ومجالاتها أوسع بكثير من اختصاص تعلمه الفرد في الحياة ونجح فيه.

لذا فإن نضج الفرد مرهون بعوامل كثيرة، من بينها الدراسة الأكاديمية والشهادة العليا التي تحصل عليها كأحد العوامل المسهمة في النضج وليس المعيار والعامل المتفرد، فيصدر من الطبيب تصرفات لربما تظهر قصورًا في ذكائه الاجتماعي والعكس صحيح، فلربما تجد فلاحًا أو عاملًا بسيطًا يمتلك من المهارات الاجتماعية ما لا يمتكله المهندس والطبيب والمعلم وغيرهم! فبالنتيجة نضج الفرد يتحصل من عدة عوامل وراثية واجتماعية ونفسية وتربوية وثقافية وتراكم خبرات، وقد يكون آخرها العامل الدراسي والأكاديمي.

ومن المؤسف حقًا أن تجد أناسًا لديها مقومات النجاح في الحياة إلا أن ضيق الرؤية لديهم بسبب تقييمات خاطئة وعقبات واهمة وضعوها في حسبانهم بأن النجاح والتفوق والحكمة والتميز كلها أمور مرتبطة بشهادة أكاديمية تضيف لقبًا او اسمًا اعتباريًا قبل الاسم الحقيقي، بينما الحق أن الشهادة الكبرى هي الشهادة الاجتماعية التي تمكنك من احترام الناس وتقديرهم وتمكنك من التعامل مع نفسيات وانفعالات الناس واحتواءها، فلا يضجر منك أو ينفض عنك من هم حولك، وهذا هو المحك في كثير من الروايات التي جاءت لتعطي التعامل ومداراة الناس أهمية كبرى وامتيازًا وحثًا على التعامل برقي واحترام الناس وتقدير عقولهم.

يبقى أن نؤكد بأن أية مرتبة أكاديمية يحصل عليها الفرد لا تعطي له عصمة اجتماعية ونضجًا على مستوى إدراك كل تفاصيل الحياة ومجالاتها وعلومها، ولا يمكن للشاب أن يتخذ من شخصية قدوة له لمجرد تحصيلها العلمي أو تفوقها في مجال معين، فتبقى ضروب الحياة كثيرة ومهمة لتحظى بالبحث والتقدير والاهتمام بها، بل وإدراجها على قائمة تقييمات الشخصيات الناجحة والمؤثرة والمفيدة لغيره كقدوة أو كتأثير إيجابي يحصل عليه الشاب أو المجتمع من خلال وجود شخصيات اجتماعية فاعلة لها أفق واسع ونظرة ثاقبة في تجلي النضج الاجتماعي واحترام النظم والنسيج الاجتماعي كمًّا وكيفًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى