سُبلنا

أمير الصالح
بعد عقود من الكفاح وطلب لقمة العيش الحلال، اتخذت غالبية الموظفين مدينة كبيرة مقرًا السكن لهم. وذاك المنزل في تلكم المدينة في الغالب الأعم يبعد مئات أو آلاف الكيلومترات عن مسقط رأسه وأهله وعزوته وعشيرته. وتمضي السنون، ويرُزق الموظفون أبناءً ويكبرون. إلا ان المرض والضعف أخذ يتسلل إلى أبدان بعضهم. ويقررون حين ذاك الرجوع لمسقط رؤسهم، إلا أنهم يواجهون معارضة قوية ورفضًا قاطعًا من أبنائهم.
سأل رجل عاش مثل تلكم الظروف السالفة الوصف أبناءه المراهقين الأربعة قائلًا: إن أنا واُمكم سافرنا خارج البلاد للعلاج وتقطعت بنا السبل هناك بسبب وقوع كارثة طبيعية في تلكم البلاد مثل ثوران بركان أو وجود أعاصير مدمرة أو انتشار طاعون وإعلان حظر سفر صحي بين الدول، فبمن تلجؤون للمساعدة طوال فترة غيابنا (المفتوحة المدة) وحتى وقت رجوعنا لأرض الوطن؟
قال أحد الأبناء لأبيه: سنذهب لبيت عمنا أو خالنا في مدينتك حيث مسقط رأسك وجذورنا وعشيرتنا! وإن شاء الله لا يقصرون معانا.
رد الابن الثاني: سنستخدم المال الذي تركته لنا برشد حتى ينفد، وبعد ذلك سنتصل بالشرطة لطلب المساعدة وطلب تأمين الطعام والماء وتدفق التيار الكهربائي بالمنزل وعدم توقف الانترنت ! وسنلتحق بالعمل بمكتبة أو بقالة حتى يفرجها الله.
المراهق الثالث: دمعت عيناه، حتمًا العالم سيكون موحش جدًا لعدم وجودكما معنا؛ ولا أتصور ماذا قد يحل بنا دونكما… أرجوك أبي لا تقل هكذا الكلام! ثم أجهش بالبكاء.
رد المراهق الرابع: أبي، لطفًا زودنا بالإرشادات والإجراءات التي يجب علينا أن نفعلها إن حدث سوء لك ولأمي، وأرجو أن تزودنا الآن بأرقام هواتف أعمامي وأخوالي وعماتي وخالاتي ! فهم السند بعد الله وبعدكما في الأوقات العصيبة.
انتهى الاقتباس للحوار . … ووظف الأب الحوار لتجذير مفهوم صلة الرحم في نفوس أبنائه.
فكرة النقاش:
بعد عدة تنقلات داخل مدن الدولة سعيًا للرزق الحلال والنمو المهني واقتتاص الفرص المتاحة، يستقر الغالبية من الأكاديميين والمهنيين المحترفين والموظفين الأكفاء من أبناء الوطن بمدن غير مدن المنشأ، بسبب الفرص والنمو المهني ومعدل متوسط الأجور ونمط الحياة وجودة البنية التحتية وتوافر الخدمات وتكاثر فرص العمل ووجود الجامعات والمعاهد، وفي الواقع، في بداية الأمر، تتشكل مجتمعات صغيرة شبه هجينة وغير متجانسة بالشكل المطلوب داخل المدن الصناعية والمدن التجارية الكبرى. ولاحقًا وبعد ضمان التدفق المالي وإحرازه واستقراره، يفتش الآباء عن إعادة تموضع مكان السكن في أحياء تلكم المدن الكبرى بناءً على قواسم العوامل المشتركة للجيران عند اختيار المقر شبه النهائي للسكن. بعد مشوار مهني مضنٍ لأولئك المهاجرين الاقتصاديين، ينتهي الأمر ببعضهم بشراء وحدة سكنية/بناء فيلا بإحدى المدن الكبرى بالبلاد في حي به أكبر تجانس وقواسم مشتركة مع الجيران بالحي المنتخب. وينشأ ويترعرع الرعيل الأول لأبناء الأكاديميين والمهنيين المحترفين خارج حاضنته وبيئته المطابقة لبيئة والديه الأصلية. وتحدث مقارنات كثيرة في نفوس الآباء في حث الأبناء. والواقع أن أبناء الجيل الأول ترعرع ونمى في بيئة تعج بخليط ثقافات وتجاذبات وأنماط حياة وتيارات فكرية هجينة في مدن الهجرة الاقتصادية، وهو إفراز طبيعي لتكوين وجودهم الفكري والنفسي والاجتماعي.
يكبر الأبناء وهم في تجاذبات بين أفكار آبائهم المكافحين اقتصاديًا والمنظبطين عمليًا وأفكار الحاضرة الجديدة التي يقطنونها. ويبدأ مشوار جديد حيث يومياته و قوالبه تختلف عن يوميات الآباء وقوالب الفكر الاجتماعية للحاضنة الاجتماعية الأصلية. في بعض المناطق ينمو الأبناء بشكل أفضل، وبعضها أدنى وبعضها ينطبق عليها صفة دمار شامل.
مع تقادم الأيام ومخاضات الفترات الانتقالية ومابعدها ترى تفاوتًا في أنماط المقاربات والمعالجات بين جيل الآباء وجيل الأبناء في قضايا جوهرية ومنها:
١- آلية التفاعل مع القيم ومعايير الأخلاق.
٢-آلية انتخاب القدوة ومعايير القدوة.
٣-آلية انتخاب الزوجة/ الزوج (مركز وظيفي، شهرة، نسب، أخلاق، دين، علاقات، مغامرات عاطفية، خوض تجارب …إلخ)
٤- حدود العلاقة ببن الفتاة والرجل في العمل والشارع والسوق وتطبيقات السوشل ميديا
٥- مفهوم القوامة والحرية الفردية والأعراف الاجتماعية.
٦-الإيمان بقيمة العمل والتفاني فيه أم استنساخ تجارب مشاهير السوشل ميديا بناءً على مكاسبهم المالية الفلكية.
٧- أنماط صلة الرحم والابتكار في تطوير آلياتها.
٨- الحوار الهادف أم الاستبداد عند التعامل مع الأبناء.
هدف الطرح والنقاش:
استجلاء الصور واستنطاق الحلول هي اجتهادات اجتماعية مترادفة ومتراكمة لصنع أطر عقلائية تحافظ على الهوية والانتماء واللحمة الاجتماعية . إغفال هكذا حوارات في ظل ترادف التحديات والعولمة الإعلامية وثورة الاتصالات والتفرج عليها دون حراك لإيجاد حلول أو الاكتفاء بالتندر والانتقاد السلبي ستخلق بالمحصلة مجتمعًا مهلهلًا ومستهلكًا للكلام وغارقًا في الأزمات ومُخترقًا وضائعًا بالهوية والأخلاق. فيسجل في حقه ” وجدت مسلمين ولم أجد إسلامًا”!
سُبُلَنا
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، سورة العنكبوت، آية 69، صفحة 404، آية قرآنية تبث الدعم المعنوي والروحي في قلوب الصالحين وتحثهم على ضرورة طرق كل أبواب الحلول الممكنة لإعداد حلول ذكية وشرعية وأخلاقية تحتضن المراهقين من جهة وتوسع مداركهم وتزرع الأمل بمستقبل أفضل لهم. نعم، ليس هناك أنموذج حل كامل متكامل في ميادين السلوك، ولكن لا يجب أن ييأس أيٌّ منا في تفكيك أي تحدٍّ طارئ لعناصره الأولى وابتكار الحلول الممكنة ومساندة الأبناء في رسم طريق التعامل مع متغيرات الحياة بكل ثقة وعنفوان وموضوعية واعتماد على الله.