لماذا الإمام الرضا عليه السلام… غريبُ الغرباء؟!

أحمد الطويل
مقدمة:
في كلّ عام، تهفو القلوب إلى مشهد، وترتجف الألسنة بكلمة مشحونة بالعاطفة:
“السلام عليك يا غريبَ الغرباء.”
لكن، لماذا الإمام الرضا؟
أليس الإمام الحسين عليه السلام غريبًا في كربلاء؟
أليس الكاظم، الجواد، الهادي، العسكري كلهم غرباء عن المدينة؟
فما الذي جعل الغربة تنحصر في الإمام الرضا عليه السلام حتى أصبح اسمه يقترن بلقب “غريب الغرباء”؟
هل الغربة هنا تُقاس بالبعد الجغرافي؟
أم أن الغربة التي نعنيها أعمق وأوجع؟
فلنبدأ الرحلة لكشف هذا اللغز الإيماني، التاريخي، والوجداني.
الغريب في اللغة والوجدان
“الغريب” لغةً: من نأى عن وطنه وأهله.
و”الغُربة” اصطلاحًا: ليست مجرد بعد مكاني، بل قد تعني الوحدة، الرفض، الإقصاء، عدم التقدير، والخذلان.
ولكن…
هل الغربة تقتصر على بُعد المسافة؟
أم أن هناك غربة أشدّ وقعًا، كأن تكون في قلب الناس ولا يشعر بك أحد؟
أن تكون بين قومك فلا يُدركون قدرك؟
أن يُطلب منك السكوت وأنت وارث كلام النبوّة؟
هذه هي غربة الإمام الرضا.
أليس كلّ الأئمة…؟
قبل أن نُكمل، لنطرح سؤالاً هزّ القلب والعقل معًا:
أليس كل الأئمة عليهم السلام رضا لله؟
أليس كلهم جوادون؟
أليس كلهم كاظمون للغيظ؟
أليس كلهم صادقون؟
أليس كلهم علماء ربانيّون؟
فلماذا يُلقّب أحدهم بـ”الرضا”، وآخر بـ”الجواد”، وآخر بـ”الكاظم”، وآخر بـ”الصادق”؟
الجواب: لأن الله عز وجل سلّط الضوء على صفةٍ معينة في كل إمام لتكون مفتاحًا لفهم غايته في الحياة.
فالإمام الرضا تجلّت غربته، فكان هو غريبَ الغرباء، لا لأن الآخرين لم يُغتربوا، بل لأن غربته كانت مختلفة في نوعها وظروفها ومضامينها.
الغربة ليست في البعد بل في الوحشة
لنضع الأمور على طاولة التحليل العقلي والنقلي.
الإمام الرضا عليه السلام لم يُقتل في ساحة معركة، بل دسّ له السُّم، على يد من رفعه ظاهريًا لولاية العهد.
بل مشى المأمون العباسي حافيًا خلف جنازته!
(الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج6، ص332)
هل هناك مشهد أكثر استفزازًا للمشاعر من قاتلٍ يُشيّع جنازة ضحيته؟
غريبٌ لأن عدوه دفنه.
غريبٌ لأنه وُضع بجوار قاتله في القبر.
غريبٌ لأن صوته خُنق في حياةٍ قُيّدت بالسياسة والتقيّة.
غريبٌ لأنه قال: “دخلت في هذا الأمر دخولًا كارهًا، وخرجت منه خروجًا طائعًا.” (عيون أخبار الرضا، ج2، ص153).
هذا ليس مجرد غريب… هذا غريبُ الغرباء!
غريب لأنه رُفِض من أقرب الناس إليه
الغربة الأصعب ليست بين الأعداء، بل بين القريبين.
هل تعلم أن البعض تردّدوا في إمامته عليه السلام لأنه لم يُرزق بولد لفترة؟
وحين وُلد له الإمام محمد الجواد عليه السلام، لم يقتنعوا بإمامته لصغر سنّه، إذ كان لا يزال طفلًا في أعينهم! (الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص274).
أيّ غربة هذه؟
غربة أن يُشك في إمامتك، وأنت إمام منصوص، وارث لعلم النبي، باب من أبواب الهداية!
هنا يحضر قول الله تعالى: “وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا” (الفرقان: 30).
أليس الإمام الرضا قرآنًا ناطقًا؟
فإذا هُجر في حياته، وإذا لم يُصغَ له، وإذا شكّ أتباعه فيه.
فأية غربة أعظم من غربة الحق حين لا يُقبَل، ومن غربة الإمام حين لا يُفهَم؟
غربة الفكر أشدّ من غربة الجسد
المأمون العباسي حين فرض على الإمام الرضا عليه السلام ولاية العهد، لم يفعلها تكريمًا له، بل أراد أن يُنهي فاعليّته.
أراده إمامًا صامتًا، لا قائدًا حيًا.
رمزًا سياسيًا، لا هاديًا ربانيًا.
الإمام قالها صراحة: “اللهم إنك تعلم أني قد كُرهت ذلك” (عيون أخبار الرضا، ج2، ص153).
لقد أرادوا منه أن يلبس تاج الذل، ولكنه رفض أن يتنازل عن مبادئه.
غريبٌ لأن فكره وُئد وهو حي.
غريبٌ لأن الناس سمعوا صوته، ولكن لم يصغوا لروحه.
غريبٌ لأن الغلاف كان يُزيّنه، ولكن الداخل كان يُقيّده.
الخلاصة:
ليس كل من مات بعيدًا يُسمّى غريبًا.
وليس كل غريبٍ له نصيبٌ من هذا اللقب المؤلم “غريب الغرباء”.
الإمام الرضا عليه السلام اختصّ بهذا الوصف لأنه اجتمعت فيه كل ألوان الغربة:
البعد، والخذلان، والرفض، والكبت، والتغريب الفكري، والقتل في قصر الظلم، والدفن مع العدو، والخذلان من القريب قبل البعيد.
فإذا بكت القلوب في مشهد، فليست تبكي لبُعد المسافة، بل لِبعد الأمة عن إمامها، ولغربة الفكر، ولفجيعة الصمت.
اللهم بلّغنا زيارة غريب الغرباء، الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، واجعلنا من المتمسّكين به، المستنيرين بنوره، المُنتصرين لفكره، المُوالين لولده الحجة المنتظر، عجل الله فرجه.
السلام عليك يا غريب الغرباء… يا نور طوس يا علي بن موسى الرضا.