أقلام

رحلة إلى الذات: الطريق إلى معرفة الله والكمال

أحمد الطويل

إشارة:

استلهامًا من أنفاس النور والهداية التي تفضّل بها سماحة الشيخ عبدالله النمر (دام توفيقه) في خطبته الأخيرة في مسجد الرسول الأعظم بحي السلام، جالت هذه الكلمات في خواطري، محاولةً أن تترجم شيئًا من ذلك العطاء الروحي والمعرفي، بفهمي القاصر وتأمّلي المتواضع.

مقدمة:

منذ فجر الإنسانية، سعى الإنسان في رحلته بين العوالم ليعرف أسرار الوجود، وليكتشف سرّ نفسه التي بين جنبيه. هذا الكائن الغامض، الذي يحمل بين طيّاته مفاتيح الملكوت، هو أعظم لغز في هذا الكون! كيف نغفل عنه وهو أقرب إلينا من كل شيء؟! يقول الإمام علي (عليه السلام):

“كيف يريد أحد أن يعرف غيره ولم يعرف نفسه؟”

في زمنٍ تتقاذفنا فيه موجات المادة، يغدو الرجوع إلى النفس هو الخلاص، وهو الطريق إلى الكمال، بل هو الطريق إلى معرفة الله تعالى. وهذا ما أكد عليه أهل البيت (عليهم السلام) في روايات عظيمة، تربط النفس بالله، والباطن بالظاهر، وتدفعنا إلى الغوص في أعماق الذات لاكتشاف سر وجودنا.

النفس بوابة إلى الله

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “مَن عرَف نفسَه فقد عرَف ربَّه”،(بحار

الأنوار، ج2، ص32).

هذه الرواية تختصر كل فلسفة العرفان في كلمات قليلة. فالنفس ليست شيئًا هامشيًا في رحلة الإنسان نحو ربه، بل هي البوابة، وهي البداية والنهاية.

قال تعالى: ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾، (الذاريات: 21).

نعم، إن في النفس من الآيات ما يفوق في عظمته آفاق الكون. ومن تأمَّل في نفسه بصدق، وجد آثار صانعه، ونور ربه، وسمو غايته.

النفس بين الفطرة والتجربة

العقل والفطرة يشهدان أن الإنسان ليس مجرد جسد، بل هو روح ونفس. وعلم النفس التجريبي، رغم أنه لا يتعرض كثيرًا للعالم الغيبي، إلا أنه يعترف بأن في داخل الإنسان قوىً غير مرئية، كالدوافع، والرغبات، وعدم الشعور. أما علم النفس الفلسفي، كما بحثه صدر المتألهين وأتباعه، فيرى أن النفس جوهر بسيط، لا مادي، يصعد في مدارج الكمال حتى يصل إلى ما فوق الملك.

ويقول تعالى: ﴿ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها﴾ (الشمس: 7-8).

هذه الآية تختصر البعد الأخلاقي والتربوي للنفس، فهي قابلة للفجور كما للتقوى، وهي في صراع دائم، وتهذيبها هو طريق الكمال.

الروايات نور على طريق المعرفة

قال الإمام الصادق (عليه السلام): “من لم يعرف نفسه، كيف يعرف ربه؟”

(الكافي، ج1، ص84).

بل إن أعظم الجهل هو الجهل بالنفس، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه”

(نهج البلاغة، حكمة 72).

وفي تحف العقول، نقرأ قول الإمام علي (عليه السلام): “من عرف نفسه أفناها، ومن عرف ربه أحياها”. فالمعرفة الحقّة ليست مجرد نظر، بل فناء في الحقيقة، وانبعاث باليقين.

الشيخ جوادي آملي يقول:

“عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه”، في إشارة إلى أن البحث خارج النفس ضياع، والمعرفة لا تبدأ إلا من الداخل.

النفس سرّ الشفافية ومعدن الغيب

النفس قادمة من عالم الغيب، من عالم النور. هي أمانة مودعة في الجسد، لكنها لا تفنى بفنائه. لها تجليات في الفعل، في الأخلاق، في الإدراك، وهي مرآة للروح التي تنتمي لعالم الملكوت.

قال تعالى: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (فصلت: 53).

إن هذه الآيات في النفس كاشفة عن الحق، عن التوحيد، عن العدل، عن الرحمة.

النفس في الميدان الاجتماعي والتربوي

النفس ليست وحدة منغلقة، بل تتفاعل وتؤثر وتتأثر. فـ”النفس الاجتماعية” ميدان لعلاقاتنا، وكيفية تفاعلنا مع الآخرين ينبع من فهمنا لأنفسنا. أما علم النفس التربوي، فهو يبحث كيف ننمّي النفس ونزكّيها، لتكون طيّبة، صافية، مستعدة لتلقّي فيض الحق.

الخلاصة:

النفس مفتاح الكمال، وهي سرّ معرفة الله. من جهل نفسه فقد جهل ربه، وضلّ الطريق. أما من عرفها، فقد فتح له باب الملكوت. النفس ليست سجنًا، بل سلّمًا، تصعد به الأرواح إلى مراتب النور. وكل علم لا ينطلق من معرفة النفس، علم ناقص، وكل عبادة لا تُبنى على تأمل النفس، عبادة قشر بلا لب.

اللهم يا من خلقت النفس وسوّيتها، وألهمتها فجورها وتقواها، اجعلنا من الذين يزكّون أنفسهم، ويعرِفونها، ويهذّبونها، ويرتقون بها إليك.

اللهم أرنا أنفسنا كما هي، ووفّقنا لنغوص في سرها، وامنحنا نورًا من عندك يُضيء لنا دروب المعرفة، ويهدينا إلى كمالك يا أرحم الراحمين.

تنويه:

ما ورد في هذه المقالة هو ثمرة تأمّل شخصي وتعبير عن فهمي المتواضع لما طُرح في خطبة الجمعة المباركة لسماحة الشيخ عبدالله النمر (وفّقه الله) في مسجد الرسول الأعظم بحي السلام. أسأل الله أن يوفقه لمزيد من الإرشاد والنور، وأن يجزيه عنّا خير الجزاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى