أقلام

حين يغيب الفهم: الطلاق والخلع في زمن هشّ

عماد آل عبيدان

في زمنٍ لم نعد نندهش فيه من أخبار الانفصال، بات الطلاق والخلع حديث المجالس، وخبرًا يوميًا لا يُثير حتى الفضول. تقرأ خبرًا: “انفصلوا”، ثم يليه آخر: “خُلعت زوجته”، كأن العلاقات أضحت عقودَ اشتراك، لا عهودَ مودة ورحمة.

مشاهد تتكرر، حتى صارت مألوفة. يدخل الزوجان محكمة الأسرة لا كطرفين كان بينهما حب، بل كخصمين يبحث كل منهما عن النجاة من الآخر. في قاعة واحدة، تلتقي أوراقُ الزواج بأوراق الطلاق، وكأن الزمن قفز من أول لقاء إلى آخر خلاف، دون محطات من فهمٍ أو صبر.

من الطلاق إلى الخلع… أزمة فهم لا أزمة حب

في تقريرٍ نشرته “ناجز”، بلغ عدد حالات الخلع في عام واحد فقط أكثر من 350 ألف حالة. الرقم صادم، ليس لأنه كبير فقط، بل لأنه يكشف أن أزمات الزواج تبدأ أحيانًا من أول لحظة بعد العقد، وربما قبله.

شاباتٌ حديثات الزواج يطلبن الخلع بعد أسابيع. الأسباب؟ لا توافق، فرق في المصروف، اختلاف في الطباع، أو حتى اكتشاف أن شريك العمر لا يشبه التوقعات التي رسمها الخيال أو مواقع التواصل.

“ نمتُ خاطبًا، وصحيتُ مخلوعًا!”، هكذا قال أحدهم ساخرًا، ولكنه لم يكن بعيدًا عن الحقيقة.

أسباب لا تغفرها القلوب ولا تعذرها العقول

من واقع القضايا، ومن أفواه الناس، ومن تجاربٍ حقيقية، تتكرر الأسباب:

• عدم التوافق في الطباع والخصال.

• فجوة ثقافية أو اجتماعية لا تُجسرها الكلمات.

• جفاف عاطفي وغياب لغة الحب.

• الإهانة والتحقير، وهي أقسى من الضرب.

• الخيانة، الإدمان، تدخل الأهل، وكلها كأنها مطارق تهوي على جدران البيت.

• قلة الصبر، وتعوُّد الاستبدال بدل الإصلاح.

• وعي زائف بالحرية، يُفرّغ الشراكة من معناها، ويحول الزواج إلى مباراة نِديّة لا رابح فيها.

المشكلة ليست في الزواج… بل في الاستعداد له

الزواج ليس تطبيقًا يُحمّل، بل حياة تُخاض.

أليس من الأجدى أن يتعلّم الشاب والفتاة مهارات الزواج قبل الإقدام عليه؟

كما نأخذ دورات في القيادة، أليس من الأولى أن نأخذ دورات في قيادة الحياة المشتركة؟

نقترح، لا نعاتب فقط:

• إلزام المقبلين على الزواج بدورات تثقيفية وتأهيلية، تعلّمهم فن الإصغاء، وإدارة الخلاف، ومهارات الاحتواء، وفهم الفروقات النفسية فهناك دورات كمثال “البيت السعيد”.

• تأهيل لجان الإصلاح الاجتماعي، بدورات مختصة في الوساطة والعلاج الأسري.

• تدريب أهل الشأن من العم والخال وأصحاب التجربة ليكونوا جزءًا من الحل، لا شهودًا على الخراب.

• تعزيز ثقافة “التغاضي” و”الرضا”، ونشر الوعي بقدسية العلاقة الزوجية.

مفارقات من الواقع… مؤلمة ولكنها حقيقية

• زوجة تطلب الطلاق بعد عشرين سنة، من دون سبب واضح.

• فتاة تخلع زوجها لأنه تزوج “منقطعًا” دون علمها.

• أم تطلب الطلاق رغم أنها أم لخمسة أولاد وبنتين، لأن الزوج لا يُقدّرها.

• زوجة تريد زوجًا كـ Netflix… “متاح دومًا وجاهز للطلب!”

هل أصبحت العلاقات قائمة على الخدمة والسرعة؟ هل نسينا أن الزواج عهد، لا عقد صيانة؟

الإعلام أيضًا متهم

حين تعرض الدراما قصص الخيانة والانفصال كـ”تحرر”، وتحوّل الطلاق إلى موضة، فإنها لا توثق الواقع، بل تُعيد تشكيله.

حين تسوّق منصات التواصل علاقات مثالية في ظاهرها، فإنها تُفسد الأعين عن رؤية الجمال الواقعي في البساطة والرضا.

بين ظلم الأمس واستقواء اليوم

نعم، كانت المرأة في الماضي أحيانًا تُظلم، تُمنع من حقوقها، وتُقصى عن القرار.

ولكن أن تتحوّل الآن ردة الفعل إلى استقواء مفرط، وتهديد بالخلع عند كل خلاف، فهذا مسار لا يقل خطورة.

في المقابل، بعض الرجال يتعاملون مع الزواج كمشروع تملّك، لا مشاركة، ويعتبرون الكلمة الطيبة تنازلًا، والاحترام ضعفًا.

حكمة أراها:

“الزواج عهد، لا عقد. والخلع والطلاق ليسا خلاصًا دائمًا، بل قد يكونان وجعًا طويل الأمد إذا أُخذا بجهل أو اندفاع.”

إن الحب وحده لا يكفي، فالمودة تُبنى على الجاذبية، أما الرحمة فتُبنى على الإيمان بالآخر والقبول به، كما قال تعالى:

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً).

فليتنا قبل أن نوقّع على عقد الزواج، نوقّع في قلوبنا على عهد الفهم، والتعلّم، والتحمّل.

فما أكثر الذين أحبّوا بعضهم… ولكنهم لم يفهموا بعضهم، فتباعدوا لا لغياب الحب، بل لغياب أدواته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى