ثقافة وفنون

سينوغرافيا (بحر) تتألق على مسرح الثقافة والفنون بالأحساء

رباب حسين النمر: الأحساء

في فضاءٍ ليليٍّ داكن، وعتمةٍ تامةٍ سيطرت على المكان، وعلى أضواء الفوانيس الخافتة من زمن “اليامال”، ومن رحم لآلئ الخليج، انبعثت مواويل الصيادين عبر حناجرهم المميزة وألحانهم الدافئة ونبرة أصواتهم الرخيمة ليلة البارحة، يهدهدون مركب الصيد العائد من “الدشة” على ضفاف مسرح جمعية الثقافة والفنون بالأحساء، في لوحات فلكلورية شعبية جمعت بين روعة الأداء وتميّز الأصوات، عبر مسرحية “بحر”، المستوحاة من مسرحية “النهام بحر” لرائد الفن المسرحي الخليجي خالد المريخي -رحمه الله- لتروي للأجيال قصةً من قصص الغوص الخالدة، وتُعيد ذلك الزمن الجميل بعاداته وتقاليده وأزيائه وفضاءاته، حين تقف النسوة على السيف بانتظار العائدين من رحلة الغوص.

تمضي القصة في صعودٍ وهبوط، لتتحول إلى مشاهد متأرجحة بين العشق والرومانسية، التي جسدها الممثل الشاب المتألق شهاب الشهاب في دور الشاعر والنهام بحر، والمتألقة مريم حسين في دور “نورة بنت النوخذة صقر”، لتحكي قصة عشق من التراث، بين إبداع الممثل شهاب الشهاب وخامة صوته وروعة أدائه الذي هزّ المسرح، وحاز دور البطولة بفنّ واقتدار، وبين التنافس على مصادر الرزق واستغلال الثروات وتصادم المصالح الشخصية والاقتصادية في دور النوخذة “بو فرج” الذي جسده بإبداع زكريا النجيدي، ودور النوخذة “صقر” الذي جسده عبد الله التركي بفنّ وتمكن، إضافة إلى تسليط الضوء على التسلّط والطبقية الاجتماعية واستغلال الضعفاء.

قدّم العمل باللهجة الأحسائية الساحرة، ما أضفى طابعًا خاصًا على الأداء وأطرب أسماع الجمهور، كما أُدرجت الأمثال الشعبية المحكية بين المشاهد، فأضفت نكهة فريدة على الحوار، في مشاهد تمثيلية قدمتها فرقة جمعية الثقافة والفنون بالأحساء، واستعراضات فلكلورية قدّمها شباب فرقة “سيالة”، فامتزجت في عرضٍ فريد هزّ مشاعر الجمهور واستحثّ تفاعلهم، حتى تعالت التصفيقات وارتفعت عدسات الجوالات في متابعةٍ شيّقة.

ومن اللافت جدًا أسلوب استغلال العتمة والنور، الذي برع فيه مخرج العمل سلطان النوه، وكذلك ثبات شخصية غامضة مغطاة الوجه تقف على شرفة عالية، تدق الطبل بين المشاهد لإذكاء الحماس وتعزيز التفاعل مع الاستعراضات الفلكلورية وأحداث المسرحية.

وحول شخوص المسرحية وقصتها وانطلاقتها وما تميزت به والجوائز التي حصدتها، يقول مخرجها سلطان النوه:

“بدأنا التجهيز لمسرحية (بحر) منذ عام 2023م، للمشاركة في مهرجان الرياض المسرحي الأول، الذي نظمته هيئة المسرح والفنون الأدائية بوزارة الثقافة، وشاركت فيه فرق مسرحية من مختلف مناطق المملكة.

وفي تلك المسابقة، حصلت مسرحية (بحر) على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل، وحصلت أنا على جائزة أفضل إخراج، ونال الممثل شهاب الشهاب جائزة أفضل ممثل عن تجسيده دور النهام بحر، كما حصلنا على جائزة أفضل موسيقى.

هذه أربع جوائز حصدناها في مهرجان الرياض المسرحي.

بعد ذلك، ترشح العمل لتمثيل المسرح السعودي في مهرجان الخليج المسرحي عام 2024م، الذي استضافته العاصمة الرياض لأول مرة، بمشاركة دول الخليج الست. وكانت المسابقة ثمرة حقيقية؛ حيث حصل المسرح السعودي لأول مرة على جوائز أفضل إخراج خليجي (للمرة الثانية)، وأفضل ممثل خليجي (شهاب الشهاب)، وأفضل ممثلة دور ثانٍ (جود اليامي) وهي أول جائزة تحصدها ممثلة سعودية في مهرجان الخليج العربي، إلى جانب جائزة أفضل موسيقى خليجية.

وهكذا، بلغ مجموع الجوائز التي حصلت عليها المسرحية ثماني جوائز مسرحية.

ترشح هذا العمل للعرض في أكثر من مدينة ضمن برنامج (جولة المسرح)، وقدمنا منه ثلاثة عروض في الباحة، وثلاثة في الجبيل، وثلاثة في الدمام، ونختمها الآن بثلاثة عروض في الأحساء.

كما قدمنا عرضًا في مهرجان الرياض، وآخر في مهرجان الخليج، إلى جانب ستة عروض بالأحساء في بداية انطلاقتنا، لنصل بذلك إلى عشرين عرضًا مسرحيًا.

المسرحية من تأليف الأستاذ عبد الرحمن المريخي -رحمه الله- من مدينة الأحساء، وهو من رواد المسرح في المملكة ورائد مسرح الطفل في الخليج العربي.

وقد كان العمل الأصلي بعنوان (النهام بحر)، فقمتُ بإعداد النص وإضافة شخصيات جديدة وتطوير القصة بإضافة أحداث خادمة للعمل المسرحي.

أصل العمل حكاية شعبية قديمة مستوحاة من التراث، تتناول موضوعات اجتماعية وإنسانية، مثل استغلال الشخصيات كبحر، واللعب بعواطفه من قِبل نورة لإرضاء والدها، إضافة إلى تجسيد التناقض والطبقية الاجتماعية السائدة آنذاك، في زمن صيد اللؤلؤ.

تخلل العمل عدد من الموروثات الشعبية، صمّمها الفنان عيسى الرشيد رئيس فرقة سيالة، بمشاركة شباب مبدعين، أكملوا العرض بأدائهم الناضج والمتميز.

العمل نال قبولًا واسعًا من الجمهور بمختلف أطيافه، ومن المسرحيين والنخبة والمهتمين، وكانت ردود الفعل إيجابية وقوية.

يمس هذا العمل ثقافتنا وموروثنا وحكاياتنا الشعبية.

وقد تعمدتُ التنويع في الإخراج، واعتمدت على المفاجآت، وعلى الإخراج البسيط والمبهر، واستثمرت في السينوغرافيا (تصميم الإضاءة، الديكور، الأزياء، والمؤثرات الصوتية) التي أبدعها الأستاذ فيصل العبيد من الكويت، وهو أحد أبرز المختصين في السينوغرافيا بالخليج، وكان لها دور كبير في إنجاح العمل.

ونتمنى أن يستمر هذا العمل وألا يتوقف عند العرض رقم عشرين، بل نطمح إلى تقديمه مستقبلًا والمشاركة به في مهرجانات عربية ودولية.”

والجدير بالذكر أن سلطان النوه هو مدير العلاقات العامة والإعلام وعضو المسرح بجمعية الثقافة والفنون بالأحساء، وممثل ومخرج، وعضو مكتب الهيئة الدولية للمسرح، ومشرف النشاط الثقافي بتعليم الأحساء.

ويُعد الفن المسرحي ركيزة أساسية من ركائز رؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى تطوير مهارات الشباب السعودي، وطموحها أن تضعهم في مصافّ الطاقات العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى