أزمة الانتباه في العصر الرقمي: كيف صار وعينا سلعة في مزاد الخوارزميات

غسان بو خمسين
في عالم يزداد ضجيجه كل لحظة، لم يعد الصمت فضيلة فحسب، بل ضرورة حياتية. ومع تسارع التكنولوجيا، اكتشف الإنسان المعاصر أنه لا يفقد وقته فقط، بل يفقد شيئًا أعمق: قدرته على التركيز. نحن لا نعيش في عصر المعلومات، بل في عصر تشظي الانتباه، حيث تحول وعينا من أداة فهم، إلى سلعة تُباع وتُشترى.
من ذاكرة السمكة إلى وعيٍ مكسور
كشفت دراسة أجرتها شركة مايكروسوفت أن متوسط مدى انتباه الإنسان انخفض من 12 ثانية في عام 2000 إلى 8 ثوانٍ فقط في عام 2023 — وهو أقل من مدى انتباه السمكة الذهبية التي تُسجل 9 ثوانٍ. والسبب؟ ليس في طبيعتنا، بل في بيئتنا: إشعارات لا تهدأ، محتوى دون نهاية، وإعلانات تتسرب من كل زاوية.
تشير دراسة من جامعة كاليفورنيا إلى أن المستخدم العادي يتعرض يوميًا لما بين 4,000 إلى 10,000 إعلان. هذه الأرقام تصنع تشبعًا حسيًا لا يُطاق، وتجعل من التركيز حالة نادرة، وليس عادة مكتسبة.
علم النفس السيبراني: حين يُعاد تشكيل الدماغ
في قلب هذه العاصفة المعرفية، يبرز علم النفس السيبراني باعتباره منارة تحليلية. يدرس هذا الفرع النفسي التأثيرات السلوكية والعاطفية للتكنولوجيا على الإنسان. لم نعد فقط نستهلك التقنية، بل يعاد تشكيلنا على صورتها.
تُظهر دراسات متقدمة أن الاستخدام المكثف للشاشات يعيد تنظيم دوائر المكافأة في الدماغ، حيث يُفرز الدوبامين عند كل إشعار أو “إعجاب”، بطريقة تشبه الإدمان السلوكي. يقول الدكتور جون سوذرلاند، أحد رواد هذا المجال:
“نحن لا نعيش في الفضاء الرقمي، بل يُعاد تصميمنا لنتناسب معه.”
اقتصاد الانتباه: كيف يُباع الوعي؟
في سبعينات القرن الماضي، حذّر عالم النفس هربرت سيمون من أن وفرة المعلومات تؤدي حتمًا إلى ندرة الانتباه. هذا المبدأ أصبح في صميم أنموذج الربح الذي تعتمده كبرى شركات التكنولوجيا. فكل ثانية إضافية نقضيها على تطبيق تُترجم إلى أرباح — إعلان يُعرض، بيانات تُجمع، وسلوك يُعاد توجيهه.
تشير بيانات من Statista إلى أن المستخدم العادي يقضي 2.5 ساعة يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي. أما قيمة سوق الإعلانات الرقمية فبلغت نحو 600 مليار دولار في 2023، وكلها قائمة على استغلال وقت المستخدم ووعيه.
الريلز والمحتوى القصير: سحر اللحظة… ولعنة التشتت
من أبرز أدوات استنزاف الانتباه اليوم ما يُعرف بـ “الريلز”، وهي مقاطع قصيرة على إنستغرام، تيك توك، ويوتيوب، لا تتجاوز عادة 30 ثانية. لكنها مصممة بعناية لتُبقي الدماغ في حالة تنبيه دائم.
وجدت دراسة نشرت في Frontiers in Psychology أن مشاهدة الريلز تُفعل نظام المكافأة العصبي بسرعة، مما يجعل المستخدمين يعودون للمزيد رغم غياب القيمة المعرفية.
ويقول الباحث مارك كوارتز:
“الريلز تخلق وهم الاكتشاف، ولكنها تسلب القدرة على التعمق.”
هذه الثقافة السريعة تُعيد برمجة عقولنا لتُفضل التفاعل اللحظي على الفهم المتأني، وتخلق ما يُعرف بـ “تشتت الانتباه المزمن”.
التأثيرات النفسية والعصبية: نحن لا نعمل، نحن نتنقّل
كشفت دراسة من JAMA Psychiatry أن قضاء أكثر من 3 ساعات يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي يزيد خطر الاكتئاب والقلق لدى المراهقين بنسبة 35%. أما جامعة ستانفورد، فقد وجدت أن التبديل المستمر بين التطبيقات يُقلل الإنتاجية بنسبة 40%، ويُضعف الذاكرة قصيرة المدى.
يقول الكاتب نيكولاس كار في كتابه The Shallows:
“كلما ازداد استخدامنا للإنترنت، زادت قدرتنا على تعدد المهام، وقلّ عمق تفكيرنا.”
متلازمة الانتباه المجزأ: الحياة بنصف عقل
أصبحت “متلازمة الانتباه الجزئي المستمر” واحدة من سمات العصر. يصفها علماء الأعصاب بأنها حالة يُصبح فيها الدماغ معتادًا على التبديل السريع بين المهام، مما يؤدي إلى استنزاف معرفي دائم.
60% من المستخدمين يفحصون هواتفهم خلال أول 5 دقائق بعد الاستيقاظ (جامعة بنسلفانيا).
الموظف العادي يتلقى مقاطعة كل 3 دقائق (جامعة كاليفورنيا إيرفاين).
70% من العاملين يؤكدون أن التشتت الرقمي يؤثر سلبًا على إنتاجيتهم (Harvard Business Review).
كيف نُقاوم؟
يقدم الخبراء في علم النفس السيبراني وعلوم الأعصاب مجموعة من الإستراتيجيات العملية لمواجهة هذا التيار:
الصيام الرقمي: الابتعاد عن الشاشات لفترات منتظمة يوميًا.
إدارة الإشعارات: إلغاء كل ما لا يُعد ضروريًا.
تقنية “بومودورو”: العمل ضمن فواصل زمنية (25 دقيقة عمل، 5 راحة).
التأمل والقراءة الطويلة: أظهرت دراسة من جامعة هارفارد أن التأمل اليومي لمدة 10 دقائق يُحسّن التركيز بنسبة 14%.
خاتمة القول، في عالم تُقاس فيه القيمة بعدد الثواني التي نقضيها أمام الشاشات، يصبح الانتباه ثروة داخلية، ومقاومة التشتت فعلًا وجوديًا. لم تعد الحرب على وعينا تُخاض بالسلاح، بل بالإشعارات، بالمحتوى القصير، بالخوارزميات الذكية.
وكما يقول الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان:
“نحن نصنع أدواتنا، ثم تُعيد أدواتنا صنعنا.”
إذا كنا نريد استعادة السيطرة على عقولنا، فعلينا أولًا أن نعي أن الانتباه هو حريتنا الأولى، وأن كل لحظة نمنحها لآلة لا تستحق، هي لحظة ننقص بها من إنسانيتنا.