كبسة شعريّة

عماد آل عبيدان
لم يكن أحدٌ في متوسطة “الصادق” يتوقّع أن تدور أحداث أطول ضحكة في الفصل الثاني-ب حول شيء بسيط كـ”مشط”.
ولا كان أحدٌ يُدرك أن شعرة واحدة، قد تجرّ في ذيلها كرامةً كاملة، وأن بضع قلوبٍ مرسومة على قطعة بلاستيكية زهيدة، يمكن أن تفتح أبوابًا لم تُطرَق في عقل فتى يُدعى سامي العبدالله.
كان سامي من أولئك الذين لا يُذكرون كثيرًا في قوائم التميز، لا هو من المتفوقين، ولا من المشاغبين، ولا من الذين تتوقف عندهم أعين المعلمين.
كان “عاديًا” بكل ما تعنيه الكلمة من خفوت.
إلا في شيء واحد
شعره
ذاك التاج الأسود الذي يلمع تحت شمس الطابور الصباحي، والذي يتحرك مع الريح كأنه صفحة من مجلة شعرٍ فرنسي.
كان يمشّطه كل صباح بحرص يفوق حرص الوزراء على كرسيّهم، ويضع قليلًا من الزيت، ثم يبتسم للمرآة تلك الابتسامة التي تقول: “سأُبهر العالم، أو على الأقل.. فصل ثاني-ب.”
في إحدى الحصص، بينما كانت السبورة تعاني من ضغط معادلات “قانون نيوتن الثالث”، ومعلم العلوم الأستاذ حمود يصرخ:
– “يا أولاد، من يقولي ويش معنى: لكل فعلٍ، رد فعل؟”
كان المشهد هادئًا إلى أن انطلقت حركة مريبة في الصفوف الخلفية، بين المقاعد التي غالبًا ما تُخفي مؤامرات صغارٍ يخططون لمستقبلهم كمقدّمي مقالب على يوتيوب.
همس ياسر – الفتى الأشقر شقيّ الحيّ – إلى زميله:
– “أعطني مشط سامي، بسرررعة.”
– “ليش؟”
– “أبغا أعلّمه قانون نيوتن بطريقتي.”
وبينما كان سامي يشرح إجابة سابقة متحمّسًا:
– “القانون يعني إذا ضربتك، بتضربني، مو؟”
قفز صوت من الخلف:
– “لا.. القانون يعني إذا مشّطت شعرك بمشط عليه قلوب، بيتكسر ضحكنا!”
ارتفعت قهقهات الصبيان كما ترتفع الأمواج في وجه زورق ضعيف.
استدار سامي، فرأى مشطه يلوّح به ياسر كراية انتصار، وقد التصق عليه غلاف صغير من ملصقات الطفولة.. قلوب حمراء، فراشة زرقاء، وعبارة “My Style”.
كان سامي قد اشتراه من دكان صغير خلف المدرسة، ولا يعلم أن الفتيات في الحيّ هنّ من كنّ يشترينه عادةً.
تجمّدت عيناه، ولكن شفتيه حاولتا الدفاع عن نفسها:
– “هو.. هو.. مشط بس! هذا ما يعني شي!”
ولكن الضحك لم يهدأ، بل تصاعد.
فجأة، رمى الأستاذ حمود طبشورًا على المكتب، وقال مبتسمًا، وهو يحاول السيطرة على الوضع:
– “المشط مو مشكلتنا، المشكلة في إنك جاوبت قانون نيوتن خطأ! وبعدين.. والله شعرك يستاهل صالون نسائي، ما شاء الله.”
ضحك الأستاذ، فضحك الصف بأكمله.
ضحك حتى العامل الذي يكنس عند الباب، وضحك المارّون في الذاكرة.
خرج سامي من الحصة مطأطئ الرأس.
بدا وجهه وكأنّ الشمس قد سكبت عليه غروبها كاملًا.
جلس على الدكة الخشبية بجوار الساحة، ومدّ يده إلى شعره.. فلم يعد يراه جمالًا، بل عبئًا.
هل هو فعلاً سخيف؟
هل هو “أنثويّ”؟
هل العناية بالنفس عيب؟
اقترب منه صديقه عادل، وهو الوحيد الذي لم يضحك.
– “سامي… ترى والله اللي صار غلط. ياسر سخيف، لا تهتم.”
– “ما هو الموضوع يا عادل… الموضوع إن الأستاذ نفسه ضحك. تخيّل؟”
أطرق برأسه، وقال:
– “ما عاد أبغى هذا الشعر.”
في اليوم التالي، دخل سامي الفصل حليق الرأس.
بدا كمن واجه حربًا ونجا منها بشعره.
انقطعت ضحكات الأمس فجأة، وكأن أحدهم خنق الهواء.
حتى الأستاذ حمود قال:
– “ويش فيك يا سامي؟”
أجاب بصوت رخيم:
– “قصّيت القانون الثالث.”
ضحك البعض، ولكن بصوت خافت.
في نظرهم، لم يعد سامي مصدرًا للضحك.. بل مرآة.
رفع رأسه ونظر إلى زملائه وقال:
– “بالأمس ضحكتم لأن عندي مشط عليه قلوب. اليوم ما عندي شعر.. تبغون تضحكون على ويش؟ صوتي؟ ملابسي؟ نظري؟”
لم يُجبه أحد.
قال بهدوء:
– “ترى بعض النكت، ما تنقال.. تترد.”
مرت سنوات، وفتح سامي صالونًا صغيرًا في أحد الأحياء.
ولكن لم يكن كأي صالون.
كان الزبائن يأتون فيجدون على الجدار لوحة كُتب عليها بخط فخم:
“هنا… نُصفف الشعر، ونُهذّب الشعور.”
وكان يضع عند المدخل سلة فيها أمشاط مجانية، بعضها وردي، وبعضها عليه قلوب.
سأله أحد الزبائن يومًا:
– “ما تخاف الناس تضحك؟”
أجابه:
– “خلّ الناس تضحك. الضحكة الطيبة تصفّف القلب، والضحكة المؤذية… تتقصّف.”
وفي إحدى الزوايا، جلس طفل صغير.
كان يبدو قلقًا.
فقال له سامي، مبتسمًا:
– “ليش زعلان؟”
قال الطفل بخجل:
– “صاحبي قال عني بنوتة، عشان شعري ناعم.”
ضحك سامي ضحكة ناعمة، وقال:
– “هل تدري أن الأسود لما يكون ناعم.. يلمع أكثر؟ تعال، أعطيك مشط فيه قلوب. خاص للمحاربين اللي قلوبهم قوية.”
ابتسم الطفل لأول مرة، وقال:
– “أبغى مشطين… واحد لي، وواحد له.”