السنابلُ الخُضر واليابسات بين رُسُل ووشي قراءة تأملية في تجربة الشاعر علي النمر

محمود المؤمن
لكل شاعر قاموسه الخاص الذي يتميز به وشاعريته التي تمثل البصمة التي ينفرد بها،
ومع تفاقم الثقافة والاستغراق في المطالعة وقراءة النتاج باستمرار تتطور التجربة وتضرب جذورها في أعماق الذائقة عبر الخوض في
الأبعاد الحياتية المتنوعة،
ومن خلال قراءتي لديواني (رُسُل) و(وشي) للشاعر علي النمر حاولتُ جاهدًا أن استكشف المحور الذي من خلاله ينفذ لقلوب القراء فإذا بغالبية القصائد تتحدُّ في علاقتها بالأرض من حيث تنفس الورود والاحتفاء بالحقول واحتضان النخيل ومسامرة البساتين وجريان الأنهار ورائحة الرماد، ومن ناحية آخرى الارتباط بالطبيعة من خلال هبوب الرياح ومداعبة النسيم والانتماء لأمومة الشمس وتسريح الأقمار.
وما أنوي أن أتناوله في هذه الورقة هو جزء للدلالة على الكل، وهي محورية السنابل في الديوانين بما ترمز له من دلالات متنوعة من خضرها ويابسها، وتسليط الضوء عليها لهيمنتها على تجربة الشاعر ونفسيته.
يقول محمد مندور عن الروح الداخلية للشعر بأنها ((صياغة فنية لتجربة بشرية))،
ومن خلال تتبعي لتجربة النمر المتمثلة في السنابل على وجه الخصوص أرى أنه
صاغ دلالاتها المرتبطة بالجوانب الحياتية التي تمس المجتمع بطريقة فنية، ولست بصدد ذكر جميع القصائد التي تمثل ثنائيات التضاد كمقابلة بين الديوانين (رسل) و(وشي)، ولكنني سأكتفي بذكر مثال واحد وهي السنابل فقط لأنه ما يهمنا هنا.
في ديوانه الأول (رسل) تناول الشاعر السنابل في قصيدة (روح السنابل) بكونها قوس صعود، وفي ديوانه الثاني (وشي) تناولها كقوس نزول في قصيدة (سنابل يابسات) وهذا ما سيتضح لنا عند التأمل فيهما.
ذكر الشاعر علي النمر السنابل في سبع قصائد، وفي كل قصيدة ترمز السنابل لدلالة مختلفة عن أختها في شتى الجوانب الحياتية من التفتح حتى الذبول، وتكرار ثيمة السنابل علامة على ترسِّخ رمز جوهري في رؤيته الشعرية.
وهذا ما سيتضح خلال تناول القصائد ككل ففي ديوان (رُسُل) تم تناول أربع قصائد وهي كالتالي:
الأولى :روح السنابل وهي تعبر عن البُعد النضالي في مقطع منها وفي مقطع آخر تعبر عن البُعد الإنساني
الثانية:عاديات العيون وهي تعبر عن البعد العاطفي المظلم
الثالثة: هجرةٌ في عهدةِ الخلود وهي تعبر عن البُعد الروحي
الرابعة: كسرة خُلد وهي تعبر عن البُعد الديني.
أما في ديوان (وشي) فقد تم تناول ثلاث قصائد تحمل أبعادًا مختلفة، تتضح بالتالي:
الأولى: سنابل يابسة وهي تعبر عن البُعد الفلسفي
الثانية: انسجام وهي تعبر عن البعد الصوفي
الثالثة: نسيم وهي تعبر عن البُعد العاطفي المُشرق
ولأن الشاعر حرص كل الحرص على إخضاع سنابله للاختبار من خلال تسليط الريح عليها صرخ من عمق ذاته في وجه الطبيعة قائلًا (الريح تختبر السنابل) ونجد في هذه الصورة الشعرية المكثفة انزياحًا دلاليًّا يتمثل في كشف معدن الإنسان بالاختبار كما تكشف الريح حقيقة السنابل من حيث القوة الحقيقية والضعف المخفي.
القصيدة الأولى: روح السنابل (ديوان رسل) وهي عبارة عن قوس الصعود الذي يمثل العمق الإنساني في أقصى تجلياته، وهي في مجملها تتحدث عن الكرم الإلهي المتمثل في شخصية الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) الذي مثَّل بصلحه أثناء إمامته السنابل اليابسات التي مهدت لثورة الإمام الحسين عليه السلام، فمثَّل بهذا التمهيد للسنابل الخضر التي أتت أُكُلُها وهو يتناول في هذا المقطع بُعدَ النضال والثورة :
أنت الكفافُ، فهب لسنبلنا يدا
شماء تحصد ما بذرت طموحا
من قبل سبع يابسات ربما
يأكلن سبعًا فالحصاد أبيحا
يامن تعاهد كل حبة «حنطة»
حتى تكون عطاءه الممنوحا
أنت الذي رغم انحسار حقولنا
قد كنت تزرع حقلك المجروحا
قد كان صبحك يستفيق لكي نرى
حقلًا إلهي الدروب مريحا
فترى الحواريّين أرغفة هنا
وترى عذابك في النضال (مسيحا)
قد كنت تُطعم كل سنبلة هنا
لتغيظَ في (طفّ) هنالك ريحا
في مقطع آخر من القصيدة تتناول البُعدَ الإنساني الذي فيه يتجرد المرء من أنانيته ليغمر المجتمع بهباته وعطاياه
اكتب على حقل الجياع شروحا
وانفخ بمن قصد الحقيقة روحا
القمح يا روح السنابل موعد
ما زال ينمو في يديك صحيحا
والحقل رزق الله يوشك أن يُرى
عبر امتداد الأمنيات فسيحا
القصيدة الثانية : سنابل يابسة (ديوان وشي)
وهي تمثل في مجملها البُعدِ الفلسفي الذي يتناول القضايا بعمق يتجاوز فيها الظواهر السطحية، وهي عبارة عن قوس النزول المتمثل بمرارة عدم الإنصاف، وضياع الجهد، وتحكم العشوائية
من وجهةِ الوقتِ كان العُمرُ حارِسَنا
وكُلُّنا في حقول العمرِ نمتدُّ
محمَّلونَ على أرواحنا دِعةً
ولو نُصارُ إلى أوهامِنا .. نعدو
سنابلٌ يَبَّسَتَها الأمنياتُ وما
زالت تُكافِحُ كي يختارَها النَّرْدُ
وفي مواسِمها الأحلامُ عابثةٌ
فلا يكادُ يَبينُ الهَزْلُ والجَدُّ
القصيدة الثالثة: انسجام (ديوان وشي)، وهي تتناول البُعدَ الصوفي حيث ترمز إلى اكتمال النفس ونضوجها
بيني وبين الضوءِ أن نتقسَّما
سأكونُ سُنبلةً ويُصبِحُ بُرعُما
فأشُدُّ من عُنُقِ الضياءِ قصائدًا
ويَشُقُّ في جبلِ المعاني مَنجَما
القصيدة الرابعة: نسيم (ديوان وشي)، وهي تمثل البعدَ العاطفي المشرق الذي يمتاز بالمشاعر والانفعالات والانشراح والطمأنينة وبواعث الأمل
أضيئي على سُنبلاتِ الجمالِ
بياضًا يُطِلُّ كما تشتهينْ
فإن كان شيءٌ يُقالُ هنا
فذاكَ جمالُكِ والياسمين
القصيدة الخامسة:عاديات العيون
(ديوان رسل)، وهي تمثل البعد العاطفي المُظلم، الذي يتضمن الخذلان والذبول والانطفاء،
وهنا دعاء السيدة الزهراء عليها السلام للجار قبل الدار في تعقيب صلاتها لم يُقابل بالمثل بل تعدى ذلك إلى النكران.
لم تحافظ على حق الجيرة، ولم تبادل المعروف بالمعروف
يا جارها
ما رعيت الدار ، كم سهرت
ليلًا / بكاء / دعاء
مازج النوحا
الجار
وجه دعاء الدار ، منعقد في حضرة الله
روحًا كان أم رَوحا
أين انطويت ؟!
أما كانت بجيرتها طِيبا
ألم ينشرح صدر بها شرحا؟
ضاع الدعاء
فهل ما زلت سنبلة
رغم انقطاع رواء تنتج القمحا؟!
القصيدة السادسة: هجرةٌ في عهدةِ الخلود (ديوان رسل)، وهي تندرج تحت البعد الروحي المرتبط بالعلاقة الروحية الممتدة بين الشاعر والإمام علي عليه السلام كشخصية مقدسة يُحتذى بها ويلتمس منها البركة سواء في الحقيقة أو المجاز على المستوى المكاني من ناحية كاستدعاء الرملةِ التي توحي بالهيام المتحصل من أثر المسير ومن ناحية آخرى على المستوى الزماني، كاستدعاء غبار الوقت الذي يوحي بالانجذاب الروحي الهائل للإمام علي رغم الفاصل الزمني الممتد
يا قاطعَ البيداءِ:
هبني رملةً
عَلَقتْ بثوبِكَ بالهيامِ مُحمَّلةْ
هبني
غُبارَ الوقتِ
يرسِمُ حُبَّكَ الجذَّابَ
في أُفقِ المسيرةِ سُنبلةْ القصيدة السابعة:كسرة خلد (ديوان رسل)، وهنا تمثل البُعد الديني المرتبط بالذوبان في رضا الخالق بإكرام خلقه، ليس على المستوى الإنساني فحسب بل يتعدى ذلك إلى الحب الذي يُطحنُ بكل البتول عليها السلام وهو مصداق للسنابل المرجوة لسنوات الخصب والعطاء
اطرق
فقد يغدو ليُتميكَ والدٌ في (هل أتى)
بالذاكرين تصورا
فأنَسْ..
فكل الكون حولك زاخرٌ بالمشبعاتِ
فخُذ لجوعِكَ بيدرا
من قال إن الحَبَّ يُؤلِمُ طحنَهُ
إن كان كفٌ للبتولةِ دوَّرا
ولكسرةِ الخبز الملامِسِ كفَّها
طعمَ الخلودِ ونكهةٌ لا تُشترى
وتدير ذاتَ الكفِّ
حُباً في الرحى
يهوى بتلك الكفِّ أن يَتكسَّرا
فيبثُّ أرغفةً
ويَعجِنُ باسمًا
فيكونُ بُرَّا أو يكونُ مُخمَّرا
ختامًا
ومن خلال هذا التتبع التأملي تتجلى السنابل ليس كصورة عابرة بل كرمز محوري يتكرر ويتجدد، ليحمل دلالات متشعبة بين النضج والذبول، بين العطاء والانطفاء، بين التماهي مع قضايا الأمة والانصهار في الذات المتأملة.
إن الدخول عبر بوابة “السنابل” في التجربة الشعرية لدى علي النمر هو دخولٌ إلى قلب التجربة الإنسانية
ويحق لي أن أطلق عليه هذه التسمية (شاعر السنابل).