لعبة الفهد – الحلقة العاشرة: الفراغ

إبراهيم الرمضان
توجّه أبو فهد مع ابنه علي إلى القرية للاطمئنان على فهد، تلك القرية التي كانت مسقط رأسهم. وأثناء رحلتهم، مرّوا بمنزلهم القديم، الذي أصبح الآن مسكنًا لبعض الورثة بعد وفاة الجد.
أثار المنزل فيضًا من الذكريات في نفس أبي فهد، واسترجع لحظات الشباب التي قضاها هناك. أما علي، فعلى الرغم من صغر سنه عند انتقالهم إلى الحي الجديد، إلا أنه تذكّر الفترات التي كانوا يزورون فيها المنزل عندما كان جده لا يزال حيًا.
أما عائلة أبي بدر، فقد انتقلوا بالكامل إلى أحد الأحياء الجديدة مع ابنهم بدر، حيث اشترى بدر منزلًا جديدًا بعد تقاعده، وأخذ معه والديه المسنّين ليعيشا معه في راحة وطمأنينة. أما منزلهم القديم، فقد قاموا ببيعه بعد انتقالهم.
أكملا طريقهما إلى حيث البيوت القديمة في القرية، يسألان عن منزل أبي موسى حتى وصلا إليه أخيرًا. وجداه عند باب منزله على وشك الدخول، فابتسم ورحّب بهما بحفاوة.
علي، بصوت مسموع:
– يا عمي، أين فهد؟
سرعان ما لاحظا ارتباك أبي موسى، كما شعرا باضطراب الجو حولهما عندما التفت إليهما بعض المارة فور سماعهم السؤال. كانت نظراتهم حذرة ومرتابة، وكأنهم يتوجسون خيفة منهما.
تدارك أبو موسى الأمر ليتهامس معهم ببضع كلمات، فتغيّرت تعابير وجوههم تدريجيًا، وكأن السكينة نزلت عليهم. بادروا بإلقاء التحية بهدوء، قبل أن يواصلوا طريقهم.
اقترب أبو موسى منهما، ثم قال بصوت منخفض:
– وضع فهد في غاية السرية، والناس هنا حذرون جدًا. ظنّوا أنكما ربما من جواسيس أبي مشاري أو عيون النقيب مدرك، لكني طمأنتهم بأنكما أهله.
أدخلهم أبو موسى إلى بيته لضيافتهم، حيث قدّم لهما القهوة والتمر، قبل أن يبدأ في شرح الوضع المعقد لفهد.
قال وهو يخفض صوته بحذر:
– الوضع هنا حساس، وكان علينا اتخاذ تدابير احترازية. لقد أشعنا أن فهد قد غادر البلاد إلى مكان بعيد، وهذا ساعدنا على إبعاد الأنظار عنه. في الوقت نفسه، تسلّل فهد مجددًا إلى المنطقة، ليبقى من الناحية الرسمية غير موجود، مما قلّل الرقابة المفروضة عليه ومنحه حرية أكبر للتحرك.
نظر إلى أبي فهد وابنه علي بجدية، ثم أردف:
– ولكن عليكما أن تنتبها جيدًا، لا تذكرا اسمه الصريح أبدًا، لقد اختار لنفسه اسمًا حركيًا، وهذا ما يجب أن نستخدمه عند الحديث عنه، حتى بيننا.
تعجب أبو فهد من صرامة هذه الإجراءات، ولم يكن يتصور أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة!
علي، بعد أن استذكر اللحظات التي شاهدها قبل قليل:
– أبتاه، لماذا لا نعود للعيش هنا؟ أرى الحياة هنا أكثر هدوءًا، وسط مجتمع مسالم طيب ومتكاتف.
أبو فهد:
– ما هذا الطلب المفاجئ؟! ماذا تقصد بمجتمع مسالم؟ هل رأيت ما يسوؤك في المحيطين بنا في حيّنا؟
علي بابتسامة ساخرة:
– لسنا ندًا لهم!!
صمت أبو فهد للحظة عند سماعه هذه الجملة… هي الجملة ذاتها التي طالما قالها لعلي عندما يواجهون مشكلة ما هناك.
علي، متابعًا:
– هل لاحظت يا أبي؟ الناس هنا فعلًا مختلفون عن سكان الحي الذي نسكن فيه. فهد هو نفسه فهد، ولكنني لم أشعر هنا بأي ضغط اجتماعي تجاهه، بل على العكس، أراهم يخشون عليه ويحاولون حمايته.
أبو فهد، متأملًا:
– صحيح، ناهيك عن الشعور بالحنين لهذا المكان… لا أزال أشعر بالانتماء إليه. ولكن لا تنسَ أن منزلنا القديم أصبح من أملاك الورثة الآن.
علي:
– ألا يمكن التوصل إلى تسوية بينكم؟ بيتنا في الحي كبير علينا، وتصميمه قد لا يكون مناسبًا لنا على المدى الطويل، على عكس البيت القديم الذي يحمل طابعًا أقرب إلى طبيعتنا.
أبو فهد ضاحكًا:
– تقصد أنك تريدني أن أعطي أعمامك بيتنا الكبير هناك، ونسكن مكانهم هنا؟! أولاد غيرك في جيلك لا يفكرون بهذه الطريقة! على كل حال لا بأس، سأبحث الأمر مع إخوتي، لعلنا نصل إلى تسوية ما. في النهاية، هذا البيت يحمل الكثير من الذكريات، وربما العودة إليه ليست فكرة سيئة كما كنت أظن.
التفت أبو فهد إلى أبي موسى مجددًا، عاقدًا حاجبيه بفضول:
– فلنعد إلى ذاك الذي يجب ألا ننبس باسمه… لم تخبرني، ما اسمه الحركي؟
فرك أبو موسى لحيته قليلًا، ثم أجاب بابتسامة غامضة:
– كان يريد اسمًا غير ملفت، ذا طابع رمزي لا يُفهم معناه بسهولة، وفي الوقت نفسه يحمل دلالة تضع خصومه في حالة تيه وضياع. جلسنا نفكر طويلًا، نقترح الأسماء الواحد تلو الآخر، حتى وجدنا أنفسنا نحن أيضًا في حالة تيه وضياع، لا ندري أي اسم يناسبه!
ضحك قليلًا قبل أن يكمل:
– عندها، سمع أحدنا يتمتم قائلًا: “يبدو أننا نعوم وسط زوبعة من الفراغ…”، وهنا توقف فهد فجأة، رفع رأسه، وكأن الكلمة راقت له، ثم قال بكل بساطة: “أعجبني… نادوني بـ الفراغ”.
أكمل أبو موسى ضاحكًا:
– لم نفهم لماذا أعجبته الاسم؟!
ابتسم أبو فهد وقال بتأمل:
– يبدو أنه لا يزال لابني نزعة فيزيائية هندسية كأبيه… في الواقع، “الفراغ” يتناسب تمامًا مع حالته. الفراغ ليس مجرد “لا شيء”، بل هو مكان غير مرئي، غير قابل للإمساك به… والأهم، أنه لا يمكن أن يكون فراغًا كاملًا! حتى في أكثر البيئات تفريغًا، ستجد جزيئات غازية قليلة، ولكنها تظل موجودة ولها تأثير.
أبو موسى يستمع باهتمام، وكأن الفكرة قد راقت له. ثم مال إلى الأمام ووضع كوب الشاي جانبًا، بينما واصل أبو فهد ضاحكًا:
– يبدو أن صاحبكم سيعبث بخصومه تمامًا كما يربك الفراغ قوانين الفيزياء!
ضحك أبو موسى وهو يهز رأسه موافقًا:
– يبدو أننا لا نتعامل مع شخص عادي… بل مع ظاهرة علمية!
ثم نهض قائلًا:
– حسنًا، سأذهب لأرتب لكم اللقاء مع ذلك (الفراغ)!
بعد أن خرج أبو موسى، نهض علي بحماس:
– أخيرًا! سنرى أخي بعد كل هذا الغموض.
أبو فهد، رغم اشتياقه، شعر بشيء من القلق:
– فلنكن مستعدين لكل الاحتمالات، حتى الفراغ يُمكن أن يتحول إلى ضغط هائل إن لم نحسن التعامل معه!
بعد فترة من الوقت، عاد أبو موسى ومعه رجلان، كان الرجلان يبدوان مختلفين تمامًا رغم عملهما معًا؛ أحدهما طويل القامة، نحيف البنية، ذو لحية خفيفة وملامح حادة، ينمّ وجهه عن صرامة وخبرة في التعامل مع المواقف الصعبة، بينما الآخر أقصر قامة، ممتلئ قليلًا، ذو وجه مستدير ونظرات حذرة تتفحص كل من حوله، وكأنه لا يثق بأي شيء بسهولة.
أشار إلى أبي فهد وابنه. نظر الرجلان إليهما، ثم بدءا يتهامسان مع أبي موسى، وكأنهما يحاولان إقناعه بشيء ما.
بعد نقاش قصير، اتجه أبو موسى إلى علي ليعتذر منه قائلًا:
– أعتذر يا بني، ولكن الرجلين يريدان اصطحاب والدك فقط، فالإجراءات التي سيتم اتباعها قد تكون صعبة على صبي في سنك.
تضايق علي كثيرًا من هذا القرار، وشعر بخيبة أمل واضحة، ولكنه لم يعلّق. لاحظ أبو موسى استياءه، فربت على كتفه مطمئنًا:
– لا تقلق، سأرتب لك زيارة خاصة لأخيك قريبًا، في وقت يكون مناسبًا لكما معًا، أعدك بذلك.
رغم إحباطه، أومأ علي برأسه، بينما حاول أبو فهد تهدئته بابتسامة خفيفة، قبل أن يتبع الرجلين إلى المجهول الذي ينتظره خلف هذا اللقاء المنتظر مع “الفراغ”!!
أخذاه جانبًا في أحد الأزقة، فاقتربا منه معتذرين بصوت منخفض:
– نعتذر لك يا عمي عن أي إزعاج ستتعرض له، هذه إجراءات لا بد من القيام بها.
أخرجا عصابة سوداء ليربطاها فوق عينيه، ثم قاداه إلى مكان ما، لم يدرِ أين هو، ولكنه شعر أنه خرج من باب إلى آخر. سمع صوت فتح باب آخر، بدا له صوت باب سيارة وليس منزلًا، فأركبوه فيها وانطلقت به السيارة.
حاول تقدير الوقت ولكنه لم يكن ليستطيع رؤية ساعته، إلا أنه شعر أن الرحلة ربما استغرقت خمس دقائق أو أكثر. توقفت السيارة، سمع همسًا بين السائق وأحد مرافقيه، ثم فُتح الباب وأُنزل منها، ليُركب في سيارة أخرى تنطلق به لمسافة مماثلة تقريبًا. تكرر الأمر عدة مرات، حتى بات يشعر وكأنه تائه في خريطة العالم، غير قادر على تحديد موقعه أو الاتجاهات من حوله!
وأخيرًا، توقفت السيارة الأخيرة، واقتيد أبو فهد إلى الداخل. شعر بأقدامه تطأ درجًا متجهًا للأسفل، لا بد أنه قبو في أحد المباني.
بعد بضع خطوات، فتحوا بابًا وأدخلوه إلى غرفة ما.
أجلسوه على كرسي، ثم أزالوا العصابة عن عينيه… ليجد أمامه، وجهًا لوجه.
“الفراغ”..
نهض فهد من مكانه ليقبل رأس والده احترامًا، شعر أبو فهد باختلاف الوضع تمامًا هنا. لقد سمع كثيرًا عن حياة العصابات، ولكن أن يعايش هذا الواقع بنفسه؟ أين كان فهد وأين أصبح الآن؟!
ابتسم أبو فهد قائلًا:
– ماذا أسميك الآن؟ الفراغ أم…؟
ضحك فهد وهو يرد:
– أنا فهد الآن، المكان آمن لتقول أي شيء هنا.
لاحظ فهد نظرات مختلفة في عيني أبيه، نظرات أبٍ حقيقي لم يشعر بها منذ زمن طويل.
فهد بقلق:
– ما الأمر يا أبي؟ أرجو ألا تكونوا قد تعرضتم لمشكلة جسيمة… لا تبدو كأبي فهد الذي قابلته آخر مرة.
أبو فهد مطمئنًا:
– لا تقلق يا بني، ما من خطب جديد، ولكن حديث أبي موسى معي قبل أخذك معه في ذلك اليوم هزّني قليلًا. كما أن أم موسى أوصلت لنا أمانة كانت عبارة عن رسالة مكتوبة بخط والدتك رحمها الله، وكأنها كانت تعلم ما سيحدث بعد وفاتها! (ابتسم وهو يرفع كتفيه للأعلى متعجبًا) مع أنني لا أظنها تصورت أن يصل الأمر إلى هذا الحد… كل هذا التنظيم وهذا الحذر…
فهد بابتسامة خفيفة:
– أمي كانت دائمًا أذكى مما نتخيل… ومهما ظننتُ أنني أخطط جيدًا.
أبو فهد وهو يناوله الرسالة:
– هذه هي الرسالة… قرأتها مرات عديدة، وأظن أنك بحاجة لقراءتها أيضًا، فهي ليست مجرد كلمات، بل وصية بوزن الجبال.
أخذ فهد الرسالة بيد مرتعشة قليلًا، كمن يمسك ذكرى غالية، وبدأ يقرأ بصوت خافت، بينما راح أبو فهد يراقبه بعينين تملؤهما مشاعر مختلطة.
فهد، بعد لحظات من الصمت:
– هل من شيء تريد قوله الآن يا أبي؟
أبو فهد، متنهّدًا:
– حسنًا… أتذكر جيدًا أنك كنت تحاول نيل رضاي، رغم كل الطيش والمشاكل التي كنت تتسبب بها … لا أخفيك، لم أكن راضيًا أبدًا عن ذلك. ومع ذلك، أعترف الآن أن الوضع كان يمكن أن يكون أفضل مما كان عليه… ما كان عليّ أن أتعاطى مع الأمور بهذه السلبية. وليس الأمر يتعلق بك وحدك، بل حتى مع أخيك علي… المسكين تعرض لمشاكل كثيرة، وكنا نرمي مسؤوليتها على عاتق مشاكلك، بدلًا من أن نبحث عن حلول حقيقية وذات جدوى.
تنهد مرة أخرى، ثم أردف:
– ومع ذلك… لا أزال أتمنى أن أراك في حال أفضل مما أنت عليه الآن. أريد أن يعود ابني إليّ، سنوات كثيرة مضت من عمرك … لقد تجاوزتَ الثلاثين الآن، دون مؤهل أكاديمي، ولا عمل ثابت، و… ولا عائلة … ألا يحق لي أن أرى ذريتك بعد كل هذه السنين؟
نظر فهد إلى والده بعينين تملؤهما غصة، ثم ابتسم ابتسامة مريرة:
– أبي… أنت تعلم أنني لم أختر هذا الطريق لأنه كان سهلًا… كنت دائمًا أبحث عن شيء أكبر، شيء أشعر معه بأنني أفعل الصواب… ولكنني أعلم… أعلم أنني خذلتك كثيرًا.
أبو فهد، مقاطعًا:
– لم يفت الأوان بعد يا فهد… لم يفت الأوان.
فهد، وهو يطوي الرسالة بعناية وكأنها كنز ثمين:
– ربما يا أبي… ربما.
ثم ابتسم بسخرية وأضاف:
– ولكن لا تتوقع مني أن أبحث عن “زوجة” الآن… بالكاد استطعت تضليل هذين الجبهتين (يقصد أبومشاري والنقيب مدرك) لا أريد أن أفتح لنفسي جبهة ثالثة لأني أدرك أن راداراتها ستكون أشد فتكًا بكثير!
ضحك أبو فهد من تعليق فهد:
– حتى في حياة العصابات ستكون بحاجة إلى زوجة، على الأقل لترتيب هذه الفوضى التي أمامي.
كان يشير إلى الطاولة التي تفصل بينهما، والمكدسة بالمستندات المطبوعة. وبينما كان يشير إليها، وقعت عيناه على إحدى الأوراق التي بدت وكأنها مخطط لبناء ما كبير، شعر في الوهلة الأولى أنها لمشروع فندق.
أبو فهد متسائلًا:
– هل تسمح لي؟
فهد مبتسمًا:
– تفضل.
بدأ أبو فهد يتصفح الأوراق ويعاينها بعناية، ثم رفع حاجبه متفاجئًا:
– لا تقل لي بأنك تخطط لتدمير فندق أبو مشاري؟
ضحك فهد:
– لا تقلق، سأحرص على أن يكون الفندق فارغًا تمامًا من أي إنسان، حربي مع أبي مشاري لا تتضمن قتله قطعًا.
عاد أبو فهد لتفحص المستندات مجددًا، ثم قال بنبرة جادة:
– ربما لا يمكنك الآن التفكير في تكوين أسرة، ولكن لا يعني ذلك أن تترك مستقبلك معلقًا بهذا الشكل. يا بني، خيارات إكمال الدراسة أصبحت متاحة اليوم بشكل أكبر مما كانت عليه في الماضي.
نظر إليه فهد متسائلًا، فأردف أبو فهد:
– أتذكر أنك أنهيت جزءًا كبيرًا من دراستك الجامعية قبل أن يتم طي قيدك، أليس كذلك؟ هناك برامج اليوم تسمح بمعادلة ما درستَه، يمكنك إكمال مؤهلك الأكاديمي دون أن تبدأ من الصفر.
فهد، وهو يتأمل كلام والده:
– إكمال الدراسة؟ وسط كل هذا؟
أبو فهد مبتسمًا ومشجعًا:
– أعرف أن وضعك ليس سهلًا، ولكن فكر بالأمر… حتى الفراغ له جزيئات تؤثر رغم قلتها، فما بالك بك؟ أنت أكثر ذكاءً من أن تترك نفسك عالقًا للأبد.
فهد، وهو يضع يده على ذقنه بتفكير عميق:
– هممم… يبدو أن “الفراغ” بحاجة إلى خطة دراسية أيضًا!
أبو فهد، بعد أن عادت عيناه إلى الأوراق:
– على كلٍ، لاحظت علامات حمراء كثيرة في القبو، وعلى الأرجح أنه المكان المخصص للمولدات الكهربائية. عن ماذا تبحث بالضبط؟
فهد:
– حسنًا، أنت تعرف أن أبا مشاري رجل فاسد لأقصى درجة، فلا أتوقع أن يتعامل مع مقاولين نزيهين. افترضت أنه لجأ إلى مقاول فاسد مثله، والفاسدون غالبًا ما يتركون عيوبًا في المشاريع بغرض التوفير المالي، حتى لو كانت بسيطة.
أبو فهد:
– ربما… ولكن، حتى لو وجدت عيبًا ما، فاحتمال نجاح أية محاولة لاستغلاله سيكون ضئيلًا، خصوصًا مع كل هذه التدابير والاحتياطات، إلى جانب طبقات الخرسانة التي تعزل القبو جيدًا وتمنع تسرب أي ضوضاء. قد لا تؤتي خطتك ثمارها بالشكل الذي تأمله.
عاد أبو فهد للتدقيق في المخطط، متجهًا إلى الصفحة التي تتضمن تفاصيل أكثر عن الطابق الذي يحتوي على المولدات الكهربائية.
أبو فهد:
– لاحظت أنك تركز كثيرًا على الغرف التي تضم المولدات الكهربائية، ولكنك أهملت غرفة منفصلة في الطابق نفسه.
فهد، وهو يرفع حاجبيه باستغراب:
– ظننت أنني تفحصت كل الغرف… عدا الغرفة الخاصة بنظام الإطفاء في الفندق.
أبو فهد مبتسمًا:
– بالضبط، هذا ما قصدته. هناك غرفة منفصلة ومعزولة تحتوي على خزان المياه الخاص بنظام الإطفاء، لماذا لم تُلقِ نظرة عليها؟
فهد متعجبًا:
– عجبًا! أبي، أنا أخطط لإحراق الفندق، لا لإطفائه!
ابتسم أبو فهد وكاد أن يجيب، قاطعه فهد سريعًا بعدما استوعب ما يرمي إليه والده:
– أها… فهمت، فهمت!
ضحك أبو فهد:
– جيد أنك استوعبت بسرعة، كدت أخشى أن ما تبقى من المهندس بداخلك قد اضمحل تمامًا!
ثم أعاد إليه الأوراق قائلًا:
– أظن أنه لا حاجة لشرح المزيد… ستكتشف العيب بنفسك.
لفت نظر أبو فهد ورقة أخرى، فأخذها ليتطلع عليها.
فهد مستنكرًا:
– أراك لم تطلب الإذن قبل الاطلاع عليها!
أبو فهد مبتسمًا:
– هل سأجد ما هو أكثر خطورة مما رأيت قبل قليل؟
أعاد عينيه إلى المستند، ليكتشف أنها محادثة بين فهد وناهد، تتضمن معلومات سرية بشأن ثغرات موجودة في الفندق ومعلومات مهمة أخرى.
أبو فهد بتعجب:
– من هي ناهد؟!
فهد:
– ابنة عوض… أظنك تتذكره جيدًا.
أبو فهد:
– آه، ابنة الشهيدة… رحمها الله.
فهد:
– نعم، تم احتجازها في الفندق لتعمل قسرًا لدى أبي مشاري، ولكنها الآن أصبحت عينًا لنا هناك.
ابتسم أبو فهد مقلدًا صوت فهد ساخرًا:
– (يا أبي، لا تتوقع مني أن أبحث عن “زوجة” الآن)!!
رمقه فهد بنظرات غاضبة:
– يا سلام!! تظن أنك وجدت اللحظة المناسبة للمزاح! (ثم أضاف ساخرًا) كما أن الفتاة أصغر مني بكثير، إنها في السابعة عشرة… لنفتح حضانة إذن!!
ضحك أبو فهد، مستعيدًا ذكريات قديمة:
– وما المانع؟ والدتك كانت أصغر منها بثلاث سنوات عندما تزوجتها… على الأقل أضمن لك أنها لن تسقط على ظهرك وترطمك بالأرض كما فعلت أمك بي!!
فهد، محاولًا إخفاء ابتسامته الساخرة:
– يبدو أن هذه “النكبات العائلية” وراثية إذن… أحتاج إلى فحص جيناتي فور انتهاء هذه المعركة!
ضحك أبو فهد وهو ينهض:
– حسنًا يا بُني، لا أريد أن أتسبب في مزيد من “النكبات” هنا، سأدعك تعود لمهمتك… ولكن فكّر فيما قلته بشأن مستقبلك، لا تدع “الفراغ” يبتلعك.
أومأ فهد برأسه قائلاً بهدوء:
– سأفكر بالأمر يا أبي… شكرًا.
اقترب أبو فهد ليودّع ابنه، وربت على كتفه بلطف قبل أن يلتفت إلى الرجلين اللذين كانا ينتظرانه عند الباب. أحدهما ابتسم بخجل وهو يرفع العصابة السوداء قائلًا:
– آسف يا عمي، مرة أخرى…
ضحك أبو فهد:
– لا بأس… كان الله بعونكما، ربما سأكون ضيفًا متكررًا على هذا العرض.
وضعوا العصابة على عينيه مجددًا، ليبدأ رحلة العودة الغامضة عبر السيارات والممرات، بينما كان ذهنه مشغولًا بما ينتظر “الفراغ”… وما ينتظره هو أيضًا.