أقلام

قضب اللوز

عماد آل عبيدان

ما كانت الحياة في قديم الوقت تحتاج إلى كثير من الزخرفة… كانت تكفيها لفتة عيون ضاحكة، ورائحة طين بعد مطر، وصراخ أولاد يركضون بين نخيل البلد كأنهم يطاردون كنزًا مسحورًا.

ذاك الزمن، المسمّى بالجميل، لم يكن جميلًا لأنه خالٍ من التعب، بل لأنه كان تعبًا له طعم، وله نكهة… تُشبه نكهة اللوز الأخضر حين تقضمه قبل أن يغسل أحدهم يديك من الطين.

في “القديح”، البلدة التي ما يزال ترابها يحتفظ بأثر أقدامنا ونحن أطفال، كان الصيف موسم المغامرات، لا السفر. والمزارع… ليست سياحة، بل ملاعب وساحات معارك طفولية، نخوضها دون خوذة، ولا دروع، فقط بنية التسلق، وشهية مباغتة اللوز، والكنار، والرطب.

كنت أنا أحد أولئك المغامرين. لا أمتلك سيفًا، لكني كنت أملك شجاعة طفلٍ اعتاد تسلق “القضب” في بيت أهله، حتى باتت أغصان اللوز مألوفة لكفّيه أكثر من مقبض الباب.

وفي أحد الأيام، قررت أن أستعرض هذه المهارة. فقلت في نفسي، لنذهب إلى نخل خالي – أو هذا ما ظننته – نخل مؤجّر “صلحًا” لرجل نخلاوي لا نعرف عنه سوى أنه غامض، وقليل الكلام، ويُخيفنا بمجرد تصوره.

جمعتُ أولاد أختي وابن عمي، وصرنا كفرقة استكشافية، أقودهم أنا بثقة القائد المُتأكد من موقع غنيمته. وصلنا للمكان، وكان القضب هناك يلوّح لي كصديقٍ قديم.

صعدتُ بخفة، كمن وُلد على الأغصان.

وبدأت أسقط اللوز، وأصحابي يجمعونه بانبهار…

كنا نضحك، كأننا نملك العالم.

ولكن العالم لا يُترك للعبث طويلًا.

فجأة، بدون صوت إنذار، سمعتُ الريح تغيّر نغمتها…

ثم رأيتهم يهربون!

كل الفرقة تبخّرت في رمشة عين، وأنا وحدي فوق الشجرة، لا أفهم ما حدث.

أنزل عيني، فإذا به… النخلاوي.

واقف تحتي، ينظر لي بعينين لا تنتميان للفرح أبدًا.

قال بصوت كالسعفة اليابسة:

– حوّل

سكتّ. جفّ ريقي. لا حيلة لديّ، لا مهرب.

قال:

– حوّل أقول لك

تمتمت:

– مانا نازل

قال بهدوءٍ لا يُطمئن:

– انزل ولا تخاف ما بضربك

صدقته، أو أردتُ أن أصدقه.

نزلت.

وما إن لامست قدماي الأرض حتى أمسك بأذني كما لو كانت شتلة أعشاب برية غير مرغوب بها.

قال:

– انت ولد من؟

قلت له باسمي، واسم أبي.

قال:

– والنعم في أبوك… و(…. )فيك!

صفعة من الكلمات، تركتْ في قلبي أثرًا، لم يكن قاسيًا بقدر ما كان مضحكًا بعد سنوات.

ترك أذني وقال:

– لا تعودها.

وخرجتُ من النخل… أمشي كأن شيئًا لم يكن، بينما البقية يجلسون تحت ظل الجدار، والفرح في أعينهم يلمع كاللوز الذي بين أيديهم.

قالوا لي:

– أخذنا اللوز كله، ما خلينا شي!

قلت:

– لي نصيب الأسد، لأني أنا اللي طيّحته، والنخل نخل خالي… بس طلع خالي عاطنه للنخلاوي، وخلونا ما نجي مرة ثانية!

ضحكنا. ومضينا. ولم نعد

تلك القصة، يا من تقرأ، ليست مجرد ذكرى من الطفولة… إنها مقطع حيّ من فيلمٍ قديم، نُعيد مشاهدته كلما ضاقت بنا المدن وازدحمت.

طفلٌ تسلّق شجرة لوز وظنّها حديقته الخاصة، وأصدقاء هربوا وتركوه مع المجهول، ونخلاوي قال كلمته الأخيرة دون محكمة ولا دفاع.

ولكن خلف كل هذا، حكمة خفية:

أنّ الطفولة لا تُعاقَب، بل تُعلَّم.

وأنّ قسوة الكبار، أحيانًا، هي الطريقة الوحيدة لحماية ما تبقّى من تعبهم.

وأنّ الحياة، مثل شجرة اللوز، لا تُعطي ثمارها إلا لمن تجرّأ وصعد… حتى لو سُحب من أذنه بعد ذلك.

“قضب اللوز” ليست شجرة في نخل، بل لحظة من تلك اللحظات التي تصنع الإنسان.

وبين “حوّل” النخلاوي… و”…..” فيك”، حكاية عمرٍ كامل، يُروى بضحكة، ويُختتم بابتسامة ممتنّة لذلك الزمن الجميل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى