أقلام

بيضة وبطاطس

عماد آل عبيدان

لي صديق اسمه «إسماعيل »، ما هو طيب مرّه، ولا هو بعد شرير بالضبط. عايش كأنه ما يبغى يطيح وما يبغى يطير. تشوفه يضحك وياك لكنه يحط في جيبه ابتسامتين احتياط؛ وحدة يكمل بها اليوم، والثانية يداري بها وجعه لو احتدّ الكلام.

في ظهرية من الظهريّات، واحنا ناكل فطيرة “صمولة” ناشفة يابسة، قال لي بنبرة مليانة فلسفة أكثر من فتات الخبز:

ــ “الماي المغلي ما تغيّر، بس البطاطس طري وليّن والبيضة تقسى.”

قلت له: “إيه يعني؟”

قال: “يعني أنا بطاطس وإنت بيضة. أو العكس. أو يمكن إحنا شربة ما نعرف ويش فيها.”

وضحكنا. بس أنا ما كنت أضحك.

إسماعيل كان يعيش وسط عائلة شعارها “ما يحتاج تزعل، كلنا تعبانين”. بيئة لو دخلها شاعر تحوّل إلى موظف أرشيف. أمه تطبخ له التهزيء ثلاث مرات في اليوم. وأبوه يستخدم كلمة “فاشل” كأنها اسم الدلع. أخوه الأكبر مستشار نفسي في تويتر، لكن في البيت يمارس الاضطهاد كأنه تمرين يومي.

ومع ذلك كان إسماعيل يبتسم. يضحك في الواتساب، يساعد كل من طلب، يسمع مشاكل الناس بإنصات ما تملكه حتى التطبيقات المدفوعة. حتى جا ذاك اليوم

دخل علينا في المقهى متأخر. كان في وجهه غضب صامت، يشبه أول صوت للبركان قبل ما ينفجر. جلس بدون ما يطلب قهوته المعتادة. طالع فيي وقال بصوت هادي بس حاد:

ــ “أنا اليوم كسرت الباب.”

قلت: “أي باب؟”

قال: “باب الغرفة الباب اللي بيني وبين الصبر.”

ضحكت كنت أفكرها مزحة جديدة بتنطلق. لكنه طلّع جواله وراوني الباب مشقوق نصفين.

ــ “سكتّ واجد. تحملت. كنت أقول هم عائلتي، ما يصير أزعل، ما يصير أرد. لكن اليوم اليوم قلت لأبوي: أنت مشكلتي، مو الدنيا!”

ما عرفت ويش أقول له. وما أدري ذيك اللحظة هي لحظة انتصار لو لحظة انهيار. بس أنا تذكرت البيضة والبطاطس. اثنينهم في نفس الماي. واحد صار لين، والثاني صار أقسى من قبل. إسماعيل … صار البيضة. الطيبة قفّلت. صار قاسي ما يأذي أحد، لكن حق بس يحمي نفسه.

الناس ما عندها مشكلة نفسية دايمًا. أحيانًا عندها ضغط مزمن، بيئة خانقة، “طبطبة” ما جاها في عمرها. ومع هذا، أول ما يتكلم يقولون له: “تراك حساس”. “كبّر عقلك”. “ما صار شي”.

لا يا جماعة… صار. صار واجد. صار إن الإنسان تعلّم يخاف من الكلام، من المواجهة، من حتى السؤال “ويش فيك؟” لأنه تعوّد يسمعها بصيغة الاتهام مو الاهتمام.

اسماعيل اليوم صار له حدود. ما عاد يضحك مجاملة. ولا يصبر على علاقة تستنزفه. حذف أرقام ما تسأل إلا وقت المصلحة. صار يقول “لا” براحة ضمير، ويرد بـ “ماني فاضي” من غير ما يشرح. صار يختار راحته قبل رضا الناس.

ولأول مرة… شفت السعادة تنط وتطل من عيونه، مترددة شوي، بس طالعة وباينة.

في عالم يحفّزك على التحمل حتى تنكسر، صير زي إسماعيل بعد كسره. لا تظل في قدر يغلي وأنت تتظاهر بأنك “تمام”.

انسحب واطلع من الأماكن اللي تخليك تحس أنك عبء وما لك مكان.

اتباعد عن الناس إلا ما يشوفوك وما يعرفوك إلا عند حاجتهم.

حافظ على طيبتك، بس لا تخليها سلعة مجانية في سوق العلاقات المتسمّمة.

الحياة ما فيها صنف واحد. فيها بيض، وفيها بطاطس. لكن الأهم؟ إنك ما تكون القدر اللي يغلي الجميع.

خلك ماي بارد، أو خلك غيمة، أو صير حتى قطعة صمولة مبلولة… بس لا تصير اللي يصب الغليان على الناس وهو يقول ليهم: “اصبروا… ما صار شي.”

إسماعيل؟

اليوم صار يطبخ بيضه بنفسه.

ويأكل بطاطسه بملح قليل، وبراحة كبيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى