مَنْ يُحيي مَن؟ نحن أم الحسين؟!

عماد آل عبيدان
كنتُ أظنّ أنني أُحيي عاشوراء…
أحضر المجالس، ألبس السواد، أكتب القصائد، أقرأ المقتل، ألطمُ حين تُذكر زينب، وأبكي حين يُذكر الحسين والعباس.
أظن أنّي أنا من يرفع راية الحسين.
أنا من يُبقي اسمه حاضرًا، صوته مدوّيًا، ذكره نابضًا.
حتى جاء ذلك اليوم…
كان مجلسًا بسيطًا في أحد أزقة الحي، لا منبر فخم، ولا أضواء، ولا ميكروفونات تُربك الصمت المقدّس.
طفلٌ صغير لا يعرف القراءة جيّدًا، وقف يقرأ مقطعًا من المقتل بصوته المكسور:
“فنظر الحسين إلى أخيه العباس مقطوع الكفين…”
ثم توقّف، حدّق في الأرض، وقال بصوتٍ متقطّع:
“جفّ الحرف في حلقي، يا حسين.”
وانهار بالبكاء.
وبكيت أنا.
لكنني لم أبكِ على الحسين كما اعتدتُ…
بكيتُ عليّ أنا، لأنني شعرتُ للمرة الأولى أن الحسين هو من يُحييني، لا العكس.
هنا وُلد السؤال الحقيقي في قلبي، لا في عقلي:
مَنْ يُحيي مَن؟
هل نُقيم الشعائر فنُخلّد بها الحسين، أم أن الحسين هو من يُقيمنا من سُبات الغفلة؟
هل نرفع اسمه فوق المجالس، أم يرفع أرواحنا فوق الابتذال؟
هل الحسين في ذكرانا، أم في ذِكرِه نُصبح شيئًا يُذكَر؟
في مجلسٍ آخر، رأيتُ رجلًا طاعنًا في السنّ يبكي بحرقة عند سماع اسم القاسم، يتكوّر كما يتكوّر الطفل حين يخاف.
اقتربتُ منه بعد انفضاض المجلس وقلتُ له:
“ما بك؟”
قال: “حين سمعتُ أن القاسم خرجَ وهو يقول: إن تُنكروني فأنا نجلُ الحسن، أدركتُ أنني أنكر نفسي كل يوم.”
ثم رفع عينيه وسألني:
“هل صحيح احنا نبكي الحسين؟!
احنا نبكي اللي ما صرنا عليه للحين.”
من هنا تبدأ الحقيقة:
نحن لا نُحيي الحسين كما نتوهم، بل نحاول أن نُقنع أنفسنا أن مشاركتنا في الشعيرة تُعفينا من مسؤولية الرسالة.
نهتف: “يا ليتنا كنّا معكم.”
ولكننا لا نُقاوم الظلم في داخلنا، ولا نقطع يد الحسد، ولا نُحارب كربلاء الصغيرة التي تنشأ كل يوم بين أبٍ وجاره، وأمٍّ وابنها، وصديقٍ خان صداقته.
أحدهم قال:
“الحسين ليس ذكرى… بل مرآة.”
وأُضيف: بل هو امتحان نُجرّب فيه أنفسنا كل عام وعلى مدار أيامه، فنرسب غالبًا، ثم نعود إلى المجلس ونبكي، لأن البكاء هو العلامة الوحيدة التي نشعر أننا ننجح فيها.
ولكن البكاء، وإن كان نورًا، لا يُغني عن المسير في الطريق،”عِضةٌ وعَبْرَة”
أرأيت من يعتقد أن رفع راية “يا حسين” في محرّم يُغنيه عن رفع الظلم عن جاره في بقية أيام الأشهر؟
أو أنّ لطم الصدر يُكفّر عن قسوة القلب؟
أو أن ذرف الدموع يُغني عن الوقوف مع مظلوم؟
ذلك الذي ظنّ أنه يُحيي الحسين، وهو في الحقيقة يُطفئ رسالته.
الحسين لا يحتاج من يُخلّده.
هو من خُلّد بأولئك الذين لم يعيشوا معه في الزمان، ولكنهم عاشوا طريقه في الحياة.
الطفل الذي رفض أن يغشّ في الامتحان لأن زينبًا صبرت بلا مأوى؛
المرأة التي سترت جارتها لأنها تعلم أن الستر تعلمتهُ من زينب في طف كربلاء؛
الرجل الذي لم يخن العهد، لأنه قرأ أن مسلم بن عقيل بات وحيدًا لأنه خُذِل…
هؤلاء… هم من يُحيي الحسين حقًا.
لا من يصرخ في المسيرات، ثم يظلم أولاده، ويقسو على زوجته، ويكسر قلوب الناس ويقول: أنا من أنصار الحسين!
فيا صاحبي…
لا تسأل كثيرًا: من يُحيي من؟
بل اسأل:
هل أنا حيٌّ بالحسين، أم مجرد صدى باهت لحكايته؟
هل أنا زائرٌ للطف، أم رفيقٌ في المسير؟
هل يراك الحسين في كربلائه؟
هل يلتفت إليك كما التفت لصاحبه وقال: ارجع، فليس عليك منّي رَحْضٌ… أم يقول: هل من ناصرٍ ينصرني؟
كلما شعرتُ بالخذلان من العالم، أعود إلى ذلك الطفل في في ذلك المجلس، الذي قال:
“جفّ الحرف في حلقي يا حسين.”
حينها فقط، أدرك أن الحرف لا يُحيي الحسين، بل الحسين هو من يُحيي الحرف.
وأن العَبرة لا تكتمل دون العِبرة، ولا الشعيرة دون البصيرة، ولا الموت دون رسالة تُعيدنا للحياة.