أقلام

في ظلّ الراية: طريق العاشقين إلى كربلاء

أحمد الطويل

مقدمة:

حين يهلّ محرّم، لا نفتح دفتر الأيام، بل نفتح قلوبنا. ولا نستقبل شهرًا مثل بقية الشهور، بل نستقبل نداءً من السماء: “هل من ناصر ينصرني؟”

وتكاد الأرواح تهتزّ عند أول صوت لـ “يا حسين”، كأنها خُلقت من جديد، لتسير نحو الحقيقة، نحو الخلود، نحو كربلاء.

ليس هذا موسم بكاء فقط، بل موسم وعي، انبعاث، ومسير نحو النور.

فمحرّم طريق العاشقين، ومن أحبّ الله، لا بد أن يعشق الحسين.

الحب الإلهي مفتاح القرب واليقظة

كل شيء يبدأ من الحب.

ولكن ليس أي حب، بل ذاك الذي يوقظ القلب، يطهّر النفس، ويجعل الإنسان يختار الشهادة على الذلّ.

الحسين عليه السلام لم يخرج لمُلك، ولا رغبة في دنيا، بل خرج ليقول: “يا رب، إن كان هذا يُرضيك، فخذ حتى ترضى”.

كان العاشق الكامل، الذي اختار وجه الله، لا سواه.

لقد قال الإمام الصادق عليه السلام: “وهل الدين إلا الحب؟”

والحسين جسّد هذا الحب حتى النهاية، حتى صار دمه ترنيمة الخلود في ساحة الفداء.

نحو يقظة القلب: بداية كل مسير

“الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.”

ولكن الحسين لا يريدك أن تنتبه بعد الموت، بل أن تستيقظ الآن، في الحياة، أن تعيش مستيقظًا، واعيًا، حرًا.

فأن تبكي الحسين، يعني أن قلبك لا يزال حيًا، قادرًا على أن يرى الفرق بين النور والظلمة، بين الحق والباطل.

وهذا البكاء ليس حزنًا فقط، بل هو إعلان موقف، تجديد ولاء، وموقف وجودي يقول: “أنا معك يا أبا عبد الله”.

رحلة في قلوب العاشقين: كيف نعيش محرّم؟

في كل محرّم، هناك أرواح تستعد لتخوض معركة مع أنفسها، لتطهّرها، لترتقي، وتلبس ثوب القرب من الحسين.

فتراهم يعيشون تلك الأيام كما عاشها أهل الطفّ، لا بالدروع والسيوف، بل بصدق الشعور، وصفاء النية، وتوق إلى الله لا ينطفئ.

في تلك الرحلة، يتعلم العاشقون الصبر، كما صبر الحسين حين قال: “صبرًا على قضائك يا رب… صبرًا على حكمك، يا غياث من لا غياث له.”

ويشمخون بالعزّة، كما قال سيّدهم: “لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد.”

ويستقون من بحر الثقة بالله، حين هتف: “أنت رجائي في كل شدّة… كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة…”

ولا يخافون الموت، لأن الحسين علّمهم أن الحياة مع الذلّ موت، والموت في سبيل الله حياة لا تزول.

وتحترق قلوبهم بعشق إلهي عظيم، كما ترنّم الحسين في خلوته الأخيرة: “إلهي تركتُ الخلقَ طُرًّا في هواك، وأيتمتُ العيالَ لكي أراك…”

المحرّم مشهد الحزن وموعد القرب

وما إن يهلّ هلاله، حتى يتوشّح العاشقون بالسواد، لا مجرّد عادة، بل عهد.

السواد في محرّم ليس لونًا، بل حالة، موقف، علامة حبٍّ وولاء.

وترى الوجوه قد علاها الحزن، والقلوب قد انعقدت فيها دمعة، تكاد تتساقط كلما ذُكر اسم الحسين.

فما أعظم دمعة تسقي بها قلبك حبًّا، وتغسل بها ذنوبك شوقًا!

وهناك، في المجالس، يلتقي المحبّون، لا لأجل قصة تُروى، بل لأجل عهد يُجدد.

مجالس الحسين، هي مقامات من نور، من دخلها بقلبٍ سليم، خرج منها بنور لا ينطفئ.

وإذا شرب أحدهم ماءً باردًا، يذكر عطش الحسين، ويقول من قلبه: “شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني…”

فيبكي، ويلعن قاتله، ويصعد بتلك الذكرى إلى مراتب لا تُقاس.

الخلاصة:

دمعة وعهد، ومسير لا ينتهي

الحسين ليس قصة تُروى، بل طريق يُسلك.

من أراد أن ينجو، فليكن عاشقًا، ومن أراد أن يعشق، فليبدأ في محرّم.

في كل دمعة على الحسين، تجد نفسك أقرب إلى الله، في كل مجلس، تجد قلبك أنقى، وفي كل لعن لقاتليه، تثبّت ولاءك لله.

كربلاء ليست أرضًا، بل فكرة. ليست لحظة، بل مسار.

والحسين هو النجم الذي يهدي كل من أضاع الطريق.

فمن أراد الله، فلا بد أن يمرّ من كربلاء.

اللهم يا من خلقت الحسين قربانًا لحبك، اجعلنا من العاشقين لطريقه. اللهم لا تحرمنا من البكاء عليه، ولا من زيارته، ولا من خدمته، ولا من شفاعته.

اللهم اجعلنا من أنصاره، ومن الممهدين لقائم آل محمد، عجل الله فرجه الشريف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى