أقلام

موسم الحسين: نداء الخلود وثورة الوجدان

أحمد الطويل

تنويه:

هذه المقالة هي خلاصة لما استوقفني وأثّر في وجداني من المجلس الحسيني الذي أُقيم في مسجد الخضر بتاروت ليلة الجمعة، بصوت الخطيب الشيخ فوزي السيف حفظه الله، في مستهل محرم 1447هـ.

مقدمة:

حين يُعلن الحسين بدء العام.

كم يا هلالَ محرمٍ تُشجينا…

ما زال قوسك نَبلهُ يرمينا…

كلُّ المصائبِ قد تهونُ، سوى التي

تركَتْ فؤادَ محمدٍ محزونا…

اليوم هو أول أيام شهر محرم الحرام لعام 1447 للهجرة. في ذاكرتي، لا يبدأ العام الجديد برقم، بل يبدأ بندبة. لا يُفتح التقويم إلا ويفتح القلب جراحه على صعيد الطف. إنّ مطلع العام الهجري ليس فرحًا بل حزنًا، ليس احتفالًا بل استنفار. ها هو الحسين عليه السلام يطرق أبواب الضمائر، يهمس للقلوب: “هل من ناصر؟”

نحن أمام مناسبة ليست كمثلها المناسبات، لا تنتمي إلى الماضي، بل تنتمي إلى كل زمان، إلى كل من يحمل في داخله إنسانًا حرًا. الحسين عليه السلام لا يُرثى فقط، بل يُتبع. لا يُبكى عليه فقط، بل يُنهض به، وتُحيى به الأمم.

كربلاء بوصلة الإيمان وصرخة المبدأ

حين نستقبل محرم، لا نستقبله كحدث تاريخي، بل كنقطة انقلاب روحي ووجداني. كربلاء ليست حكاية مظلوم، بل نهضة إمام، لا ثأر، بل مشروع إلهي. كل خطوة خطاها الحسين عليه السلام كانت درسًا في الوعي، وكل دمعة سالت عليه كانت قَسَماً بأن نُكمل المسير.

إن الإمام الصادق عليه السلام ينقل عن أبيه الباقر عليهما السلام، أنه لا يُرى ضاحكًا إذا دخل محرم، وتغلب الكآبة عليه حتى تمر عشرة أيام، فإذا جاء يوم العاشر، فهو يوم مصيبته، وحزنه، وبكائه. فهل نملك قلوبًا أرق من قلب إمام معصوم؟

إنها كربلاء، التي منها يبدأ الإيمان الحقيقي. حين وقف الحسين عليه السلام في وجه الظلم، كان وحده، ولكنه أسّس أمة. دمه أصبح منارًا، وصموده قرآنًا يمشي على الأرض.

الشعائر الحسينية عبادة وفلسفة

إن البكاء على الحسين ليس طقسًا عاطفيًا فحسب، بل هو موقف فكري وولاء ديني. لا نبكي لأننا ضعفاء، بل لأننا أقوياء بالحق. لا نلطم لأننا في دوامة ألم، بل لأننا في خندق مواجهة. إن الشعائر التي نحييها هي عبادة فيها عقل وقلب، فيها عقيدة وحركة.

يروي الإمام الرضا عليه السلام: “يا ابن شبيب، إن كنت باكيًا لشيء، فابكِ للحسين… فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش”. وهل بعد هذه الصورة، يبقى قلب لا يهتز، أو عين لا تدمع؟ بل إن كل من لا يبكي، قد يحتاج أن يُفتش عن إنسانيته!

لبس السواد، إقامة المجالس، نشر الرايات، ليست مظاهر فقط، بل رسائل. كل شعار حسيني هو صوت: “أنا لا أقبل بالظلم”، وكل دمعة هي توقيع: “أنا مع الحسين”.

موسم الحسين طاقة تهزّ الجمود

في زمن التيه، يأتي موسم الحسين ليعيد توجيه البوصلة. ترى الشباب يتحركون، الفعاليات تتجه نحو الخدمة، والأوقات تُملأ بالطاعة لا بالفراغ. لو تأملتَ المجتمع في هذا الشهر، لرأيت عجبًا: طاقات تُستنهض، مواهب تُستثمر، عقول تُنير، وقلوب تُصفّى.

المجالس تتحول إلى جامعات، المنابر إلى قلاع فكرية، والمواكب إلى ساحات أخلاقية. ترى الفتى الصغير يخدم، والشاب ينشد، والشيخ يعظ، والمرأة تبكي كما لم تبكِ من قبل. إنها ثورة وجدانية عامة، لا تحتاج إلى أمر من زعيم، لأن قائدها الحسين، ونداؤها خالد.

آثار كربلاء تتجاوز الطائفة

كثيرون من خارج الطائفة، ومن غير المسلمين، يتساءلون: لماذا هذا البكاء؟ لماذا هذا الإصرار؟ ثم، شيئًا فشيئًا، يهتدون. كم من مهتدٍ ركب سفينة الحسين! كم من عقلٍ اشتعل فيه نور الحسين، بعد أن سمع عن يوم الطف؟

كربلاء تتخطى الحدود المذهبية، لأنها نداء إنساني، لأن فيها الخير المطلق في وجه الشر المطلق. فيها الحسين بن علي، الذي قال: “إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”. وهل يوجد إصلاحٌ أعظم من أن تُوقظ أمة كاملة من سباتها العميق؟!

أن تكون حسينياً حقًا لا شكلًا

الامتحان الأصعب ليس في حضور المجالس، بل في ترجمتها إلى سلوك. وليس في رفع الرايات، بل في خفض الكبرياء أمام الله. ليس في لبس السواد، بل في صيانة القلب من السواد. أن تكون حسينيًا يعني أن تكون مصليًا بصدق، صادقًا في قولك، أمينًا في عملك، نقيًا في نيتك.

ليس من الوفاء أن نلطم صدورنا للحسين، ثم نغدر في تعاملنا. وليس من الولاء أن نبكي على الرضيع، ثم نضيع أبناءنا. كل من لا يجعل من محرم محطة للتغيير، فهو لم يفهم كربلاء.

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

هي آية، لكنها أيضًا مشروع عاشورائي.

الخلاصة:

فلتكن عاشوراء بدايتك الجديدة.

موسم محرم ليس فقط موعدًا سنويًا، بل هو تجديدٌ للعهد، وتأكيدٌ على الهوية، وانطلاقةٌ نحو الذات. هو وقت الانبعاث الروحي، وهو بداية العام الحقيقي للمؤمن.

في هذا الشهر، تسكن الروح في ضريح الطف، وترتوي من نهر الوفاء، وتستقي من دم الحسين عزيمتها. اجعل من محرم مشروعًا لتغييرك، وموعدًا لبدايتك الجديدة. إن الحسين لا يريد البكاء فقط، بل يريدك أن تكون شاهدًا على قضيته، أن تُكمل ما بدأه.

اللهم اجعلنا من الباكين على الحسين، والسائرين في نهجه، والذابّين عن مبادئه. ارزقنا في الدنيا زيارته، وفي الآخرة شفاعته، وثبّتنا على درب الولاء حتى نلقاك يا أرحم الراحمين.

ختامًا، ما سُطّر هنا هو قبسٌ مما التُقط من أجواء المجلس الحسيني في مسجد الخضر بتاروت، ليلة الجمعة بعد صلاة العشائين، استلهمته من حديث الخطيب الشيخ فوزي السيف دام عطاؤه. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أنصار الحسين قولًا وفعلًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى