حين يُهزم الجسد وتنتصر الروح

أحمد الطويل
هذه المقالة هي ثمرة تأملٍ واستلهام لما فهمته من الخطبة التي ألقاها سماحة الشيخ عبدالله النمر ظهر يوم الجمعة، الأول من شهر محرم الحرام لعام 1447 للهجرة، في مسجد الرسول الأعظم بحي السلام في سيهات.
مقدمة:
كربلاء لم تكن مجرد معركة، بل مفصلٌ إلهيّ في حركة الوجود. من نظر إلى الطف بعين الجغرافيا والدماء، ربما قال إن الحسين هُزم، قُتل، وسُبي أهله. ولكن من نظر بعين السماء، رأى شيئًا آخر تمامًا. رأى نصرًا ربانيًا يُصاغ بالدم، وانتصارًا للروح على السيوف.
اليوم هو أول جمعة من شهر محرم، وشعور الحزن والولاء يعصف بالقلوب. وفي ظل هذا الشعور، ينفجر سؤال يطرق أبواب الوعي: من الذي انتصر في واقعة كربلاء؟
هل المنتصر هو من بقي على العرش؟ أم من حوّل جراحه إلى منبرٍ أبديّ؟
ولعل الجواب الأبدي أتى في صيغة إلهية خالدة: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾
[غافر: 51].
النصر الإلهي مفهوم لا يفهمه السيف
النصر في منطق السماء لا يعني الغلبة المادية أو السيطرة الظرفية، بل هو تحقيقٌ لمشيئة الله، وتقدمٌ في مشروع السماء.
تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي يوضح أن هذا النصر تكويني وليس لغويًّا. أي أنه جزء من نسيج الكون نفسه، يجري كما تجري الشمس في مدارها، والمطر في سحبه.
هذا النصر هو إرادة الله في نصرة أوليائه، وليس بالضرورة في لحظة الصراع، بل في عمق الزمان. فإن قُتل نبي، فقد نصر الله نبوته، وإن سُجن ولي، فقد نصر الله كلمته. وكربلاء؟ كانت ذروة هذا النصر الذي لا يُقاس بالأجساد، بل بالأرواح.
كربلاء ووعي اللحظة الخاطئة
الخطأ الأكبر هو أن نحاكم كربلاء بمنظار اللحظة.
كثيرون قالوا: الحسين قُتل، إذًا فقد المعركة.
ولكن الله يقول: ﴿ في الحياة الدنيا ﴾، فما هي هذه “الحياة الدنيا”؟ هل هي فقط يوم المعركة؟ أو لحظة الدم؟
الحياة الدنيا، وفق الرؤية القرآنية، ليست فقط حياتنا الزائلة، بل تشمل الوجود الأرضي كله من بدء الخليقة حتى النفخ في الصور. والنصر الموعود لا يعني التمكين الزمني اللحظي، بل تأثير الحجة، وبقاء المبدأ، واستمرار الروح.
في هذا المقياس، من هو المنتصر؟
يزيد جلس على الكرسي، ثم طوته صفحات التاريخ في زاوية الخزي والنسيان.
والحسين؟ دخل إلى قلوب الملايين، وبقي مشعلًا لا يخبو.
إرادة الحسين كشف الزيف لا كسر السيف
الحسين لم يكن يبحث عن سلطة، بل عن حق.
لم يكن مشروعه إسقاط يزيد بالجيوش، بل إسقاطه من عقول الناس وضمائرهم. قالها بوضوح:
“إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا… وإنما خرجت لطلب الإصلاح.”
لقد فهم عليه السلام أن إزالة الحاكم ليست دائمًا بإزاحته عن الكرسي، بل بنزع الشرعية من عرشه. فإن لم يستطع أن يخلعه، فيكفيه أن يُسقطه في ميزان الأمة.
وهذا ما حصل.
لم يبقَ من يزيد شيء، بينما تحول دم الحسين إلى منظومة قيمية كاملة، تشهد لها الشعوب، وتستنير بها الأمم، وتبكي لها حتى الأحرار من غير المسلمين.
البرهان الحي: أحاسيسنا اليوم
حين تسمع اسم الحسين عليه السلام، لماذا ترتعش روحك؟
حين تُرفع رايته، لماذا تدمع عيناك؟
حين تذكر الرضيع، لماذا يخفق قلبك؟
هذه ليست عواطف عابرة، بل فيض ربّاني، كما أشار الشيخ عبدالله النمر في خطبته.
كل ما نعيشه من شعور، وكل ما نحس به من ارتباطٍ بالحسين، هو في الحقيقة دليل انتصاره.
نعم، لقد قُطع جسده، ولكن بقيت روحه تفيض على أرواحنا حتى اليوم.
كل دمعة في محرم، كل مجلس يُعقد، كل شابٍ يخدم، كل مآتم تقام، هي شهادة نصر. شهادة أن الحسين هو الغالب، لا بسيفه، بل برسالته.
يوم يقوم الأشهاد حين تتضح النتائج
الآية تقول: ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا… ويوم يقوم الأشهاد﴾، ذلك اليوم، يوم الحقيقة، حين تسقط الأقنعة، وتبطل الأوهام، ويظهر الملك الحقيقي لله وحده.
في ذلك اليوم، لا يُسأل من فاز بالسيف، بل من ثبت على المبدأ.
وفيه يُظهر الله من الذي نصره حقيقة، ومن الذي لبِسَ الباطل.
عندها يرى أهل الدنيا ما لم يفهموه يوم كربلاء: أن الحسين لم يُهزم، بل هزم الهزيمة نفسها.
وأن الدم حين يكون طاهرًا، يكتب النصر بمدادٍ لا يُمحى.
الخلاصة:
من الذي انتصر في كربلاء؟
هو من بقي خالدًا، لا من بقي حيًا.
هو من أخرج من كربلاء مشروعًا للبشرية، لا سيفًا للسلطة.
هو من استمر أثره، لا من انتهى ذكره.
الحسين هو المنتصر…
لأنه لم يطلب الدنيا، فوهبته السماء الخلود.
ولأنه ضحّى بالجسد، فأعطاه الله نصرة الروح.
ولأنه مات قائمًا، فقام به الدين من جديد.
اللهم اجعلنا ممن يفهم نصر الحسين لا بمن يردده، وارزقنا نور البصيرة، لا دمعة العادة. ثبتنا على طريقه، واجعل أرواحنا منسجمة مع رسالته، واكتب لنا أن نكون ممن ينتصرون له، لا من يبكون عليه فقط.
ختامًا، إن ما كُتب هنا هو خلاصة ما فهمته من خطبة الجمعة المباركة التي ألقاها سماحة الشيخ عبدالله النمر ظهر هذا اليوم في مسجد الرسول الأعظم بحي السلام في سيهات، في أول جمعة من شهر محرم الحرام لعام 1447 للهجرة.
نسأل الله أن يجعلنا من حملة راية الحسين، لا المتفرجين على مأساة الطف.