الزواج مشروع مقدّس لا نزهة عابرة: من آية السكينة إلى مدرسة كربلاء

أحمد الطويل
هذه المقالة هي مما فهمتُه من المجلس الحسيني للخطيب الشيخ محمد السمين في مجلس (أبو الفضل العباس) عليه السلام بعد صلاة العشائين، مساء يوم الثلاثاء، ليلة الأربعاء، السادس من محرم الحرام لعام ١٤٤٧ للهجرة، في سيهات حي السلام.
مقدمة:
بوابة الحب الإلهي وميدان البطولة.
عندما تتعالى أصوات الطبول الإعلامية، وتُختزل قداسة الزواج في لحظة إعجاب عابر أو رحلة على شاطئ الأحلام، يُطل علينا صوت الوحي، مدويًا، ثابتًا، نقيًا، معلنًا: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها…”.
الزواج ليس لعبة عاطفية تنتهي مع أول خلاف، ولا قصة وردية تنطفئ بانطفاء شرارة الحب اللحظي، بل هو صفحة مشرقة من سفر الوجود الإلهي، حيث تتلاقى الأرواح لتُشيّد بيتًا من نور، لا من حجر. إنه رابط يتجاوز الجسد إلى الروح، ويعلو على اللحظة إلى الأبد.
وما أروع أن نستلهم هذا المشروع من بيتٍ حسيني، من علاقة زوجية لم تكن مجرد عشرة، بل كانت رباطًا جهاديًا بين قلبين عاشقين لله: حبيب بن مظاهر وزوجته البطلة، شريكة الشهادة والبصيرة.
الآية الكريمة:دستور الزواج في الإسلام
“ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.”
آية ليست كغيرها من الآيات؛ إنها أعظم شهادة قرآنية على أن الزواج آية من آيات التكوين، وليس مجرد علاقة بين رجل وامرأة. السكن ليس سكونًا جسديًا، بل قرار وطمأنينة. المودة ليست وهجًا عابرًا، بل محبة متجددة تغذيها الرحمة، وتوقظها القلوب المؤمنة.
الآية تدعونا للتفكّر، وليس للاندفاع. للتأمل في مشروع الحياة، وليس لخوض مغامرة مزاجية. من لا يتفكر، سيبني بيتًا هشًا، لا يصمد أمام أول عاصفة، أما المتفكر، فسيبني بيتًا يشبه سفينة نوح ينجو به من طوفان الدنيا.
مشروع الزواج من “أنا” إلى “نحن”
الزواج ليس مجرد خطوة اجتماعية أو انتقال في الحالة المدنية، بل هو تحوّل وجودي عميق يبدأ من مرحلة تُسمى بـ”أنا الأولى”، حيث يعيش الفرد مركزًا على ذاته، مستقلًا بقراراته، غارقًا في خصوصياته، لا يُشرك فيها أحدًا، لا مسؤولية على عاتقه إلا ذاته، ولا همًّا يتجاوز مزاجه.
ثم فجأة، يدخل إلى محطة مختلفة تمامًا، اسمها “نحن”. هنا، يتخلّى عن الكثير من استقلاله، ويتشارك مع شريك الحياة تفاصيله، قراراته، مشاعره، وحتى لحظات ضعفه وقوّته. يتعلّم أن الخصوصية تصبح مشتركة، وأن الشراكة ليست ترفًا بل واجبًا، وأن بناء البيت يبدأ من تقبل الآخر.
ومع مرور الوقت، ينتقل إلى مرحلة أعمق، تُسمى “أنا الثانية”، عندما يصبح أبًا أو أمًا. في تلك اللحظة، يرى نفسه منعكسًا في وجوه أبنائه، وتبدأ مسؤولية أوسع من حدود الذات: مسؤولية التكوين والتربية وبناء الإنسان الجديد. يصبح الأبناء أولوية، وينتقل المركز من الذات إلى الامتداد.
وأخيرًا، ينمو المشروع ويتبلور في مرحلة “نحن الثانية”، حيث تكون العائلة كيانًا واحدًا، وجبهة موحدة، وحصنًا منيعًا، يحمل قيمًا ومبادئ، ويكون لبنة في مشروع المجتمع الرسالي. هنا يصبح الزواج نواة أمة، وليس مجرد علاقة فردية.
كيف نختار شريك الحياة؟
سؤال يختصر فيه الشباب أحلامهم، ويتعثر فيه كثيرون. كيف تختار من يكمل معك الطريق؟ من يساندك في ضعفك؟ من يشعل فيك النور حين يخبو؟
الجواب يبدأ منك
اعرف نفسك أولًا.
ما طباعك؟ هل أنت سريع الغضب؟ هل لديك غيرة مفرطة؟ ما اهتماماتك؟ من تصاحب؟ كيف يتحدث عنك الآخرون؟ حتى حساباتك في وسائل التواصل تكشف ميولك، من تتابع؟ ماذا يعجبك؟ كل هذا مرآة لشخصيتك، ومن خلالها تعرف من هو شريكك المناسب.
ثم تعرّف على شريكك بعمق، لا تكتفِ بعبارات عامة مثل “ملتزم”، “محترمة”، “متفهم”، بل حدّد بدقة: ما معنى الالتزام بالنسبة لك؟ هل هو حضور المسجد؟ الحجاب؟ الصلاة؟ وما معنى التفهم؟ هل هو الصمت؟ أم النقاش بعقل؟ كن واضحًا، فالغموض قاتل.
المعايير بين الضروري والمهم
لا تخلط بين الضروريات والكماليات.
الجمال… المال… الثقافة… كلها جيدة، ولكن ليست أساسًا. الأساس هو الدين، الخُلق، الرحمة.
هل شريكك يخاف الله؟ هل يضبط غضبه؟ هل يحنّ حين تغضب؟
تلك هي الأسئلة الحقيقية.
لا تطلب شخصًا كاملًا من الجنة، فالكمال لله وحده، وكل إنسان يحمل نقاط قوة ونقاط ضعف. ابحث عمن يعترف بنقصه ويسعى لكماله، عمن يسندك لا يُسقطك، ويقوّيك لا يكسرك.
في النهاية، بيت السكينة يُبنى بالحبّ المتجدد، وليس بالجمال المنتهي.
المرأة الصالحة: عمود الأسرة ومربية الأجيال
هي أكثر من زوجة، إنها مركز القيادة الروحية للبيت.
ليست فقط من تطبخ وتغسل، بل من تُحيي روحًا وتُعيد توجيه قلب.
المرأة الصالحة تعرف متى تنصح، ومتى تصمت، ومتى تبكي، ومتى تقاتل بالصبر.
هي القادرة على أن تُربّي جيلًا حسينيًا، وأن تبني رجلًا لا يُهزم.
زوجة حبيب بن مظاهر لم تكن تنتظره أن يعود من الحرب بطعام أو غنيمة، بل كانت تنتظر رسول الحسين، وكان قلبها يرى ما لا تراه العيون.
فبشّرته بالرؤية، وأرسلته إلى الجنة.
أية امرأة هذه؟!
إنها امرأة تربّت على حب الزهراء، وعلى منطق الحسين، وعلى ضياء الرسالة.
حبيب بن مظاهر: شريك البطولة وشهيد العشق الحسيني
رجل كتب الله اسمه في سجل الشهداء قبل أن يولد، وأخبره أمير المؤمنين عليه السلام أنه سيكون من أنصار الحسين.
فما نسي، وما تردد، بل عاش العمر كله بانتظار تلك اللحظة.
وعندما جاءت لم يكن وحده.
بل كان خلفه قلب امرأة مؤمنة، تشد من أزره، وتدفعه نحو المجد.
في كربلاء، لم يكن السيف فقط هو الشاهد، بل كانت النية، الزوجة، التربية، الوفاء.
حبيب وزوجته علّما العالم أن الزواج قد يكون سلاحًا في معركة العقيدة، وليس مجرد عقد نكاح يُقرأ على ورقة.
الخلاصة:
مشروع الزواج في الإسلام ليس رفاهية عاطفية، بل رسالة كبرى.
لا تبدأه دون معرفة نفسك، ولا تُكمله مع مَن لا يشاركك القيم، ولا تُسلمه للضباب والخيال.
ابحث عن امرأة تذكّرك بالله، وعن رجل يُعيدك إلى ذاتك، وابنِ معهم بيتًا من نور، لا بيتًا من ورق.
وانظر إلى حبيب وزوجته،
لا تسأل فقط: كيف استُشهد؟ بل اسأل: كيف عاش؟ ومن كانت بجانبه؟
ستفهم أن الزواج ليس نهاية، بل بداية جهاد.
اللهم اجعل بيوتنا سكنًا لطاعتك، وقلوبنا منازل لمودّتك، وارزقنا أزواجًا يُعينونا على دينك، وذريةً تُرفع بها رايتك، واكتب لنا في مشروع زواجنا نورًا من نور الحسين، وبركة من فاطمة، وبصيرة من زينب، وثباتًا كحبيب.
هذه المقالة هي ملخص مما فهمتُه من المجلس الحسيني للخطيب الشيخ محمد السمين في مجلس أبوالفضل العباس عليه السلام، مساء يوم الثلاثاء، ليلة الأربعاء، السادس من محرم الحرام لعام ١٤٤٧ للهجرة.