حين تنتصر الروح: ارتقِ من الطين إلى العرش

أحمد الطويل
ما جاء في هذه المقالة هو انعكاس لما فهمته وتأملته من المجلس الحسيني المنعقد في مجلس الإمام الرضا عليه السلام بسيهات، بحي الزهور، للخطيب الدكتور الشيخ إسماعيل المشاجرة، مساء يوم الإثنين، ليلة الخامس من محرم الحرام عام ١٤٤٧ للهجرة.”
المقدمة:
حين يسأل الإنسان عن ذاته!
“وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ…”
سؤال هزّ الوجود البشري منذ الأزل، سؤالٌ لم يطرحه فقط أولئك اليهود في المدينة على النبي محمد ﷺ، بل هو سؤال يعصف بكل من يضع يده على صدره ويسأل نفسه: من أنا؟ من هذا الذي يتحرك في داخلي؟ لماذا أحنّ إلى الأبد وأنا فانٍ؟ ولماذا أطلب السمو وأنا مخلوق من طين؟
في ليلةٍ مباركة من ليالي الحسين، ليلة تُبكي السماء حزنًا على سيد الشهداء، خرج علينا الخطيب الدكتور الشيخ إسماعيل المشاجرة في مجلس الإمام الرضا عليه السلام بسيهات، حي الزهور، ليأخذنا في رحلة معرفية روحانية تقلب مفاهيمنا رأسًا على عقب، وتوقظ أرواحنا من سباتها المادي.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ: ما الذي كانوا يبحثون عنه؟
حين أراد اليهود امتحان نبوّة محمد ﷺ، قدموا له ثلاثة أسئلة: عن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، والروح.
فأجاب عن الأولين، وتوقف عند الثالث، لتهبط آية تختصر السرّ الأعظم:
“قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا”.
الروح التي قصدها السؤال ليست جبريل، ولا القرآن، ولا كائنًا من المجهول، بل هي الروح الإنسانية، ذلك الكيان النوراني الذي هو أصل الإنسان وحقيقته.
وصفها الله بأنها “من أمره”، أي أنها ليست من عالم الخلق الذي نعرفه (المادة، الزمن، التدرج…) بل من عالم الأمر، الذي قال فيه تعالى:
“إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ”.
إذن، الروح مخلوق أمري، خالد، لا يفنى، وبه نحيا ونعي ونعقل.
الروح من أمر ربي: لا تُقاس ولا تُمسك.
النفس بين الجسد والروح: الصراع الأبدي
الله خلق الجسد من طين، ثم نفخ فيه من روحه.
ولكن بين الطين والنفخة نشأت النفس، وهي الكيان الذي يتأرجح بين الجسد والروح.
النفس، كما توضح الآية:
“ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ”
ذلك “الخلق الآخر” هو النفس التي تسكن الجسد وتتأثر به، ولكنها أيضًا تُنادى من الروح إلى السمو.
فإذا انجذبت إلى الجسد، صارت نفسًا أمّارة، تنغمس في الغرائز واللذات.
وإذا تبعت الروح، سمت، وصارت مطمئنة، راضية، مرضية.
هي معركة يومية وكل إنسان يعيشها. وكل يوم نقرر: هل نصعد؟ أم ننحدر؟
كيف تسمو الروح؟
الروح لا تسمو بكثرة الطقوس ولا بتكرار الكلمات، إنما تسمو حين تُحرّر من قيد الجسد، حين تنعتق من سجون الشهوة والغرائز، حين تبدأ بالالتفات إلى أصلها، وتشتاق إلى موطنها الأول: عالم الأمر، عالم النور، عالم الله.
تسمو الروح عندما يدرك الإنسان أنه ليس جسدًا يأكل ويشرب ويتكاثر، بل نورًا يمشي في الطين مؤقتًا ليعود إلى السماء.
تسمو حين يتحول الصراع الداخلي إلى يقظة، حين يصبح الصمت تأملًا، والبكاء صلاة، والدمعة طريقًا إلى الله.
هي لا تسمو دفعة واحدة، بل خطوة بخطوة.
بمجرد التفكر في سؤال: “من أنا؟” تبدأ الرحلة.
حين تهرب من الضجيج إلى العزلة، وتسمع نداءً خفيًّا داخلك، نداء يقول لك: “ارجع”، هناك تبدأ الروح بالصعود.
ثم تبدأ بتطهير النفس من التعلق، من الغرور، من الكِبر، من الطمع، من الحقد، تلك الأشواك التي تعيق تحليق الروح.
وتصل الروح إلى ذروة السمو عندما ترى أن رضا الله أغلى من كل شيء، عندما تفضل الجنة على الكرسي، وتختار الحق على السلامة أو النجاة الزائفة، وتقول كما قال الحر:
“إني أُخيّر نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئًا.”
هنا تمام السمو لحظة القرار الصادق، حين تنتصر الروح.
والروح تعرف الطريق، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
“من عرف نفسه فقد عرف ربه”.
الروح مرآة الله في الإنسان، وحين نراها نعرف إلى أين نعود.
الحر بن يزيد الرياحي: عندما انتصرت الروح
أبلغ مثال عملي على السمو الروحي نراه في الحر بن يزيد الرياحي.
قائدٌ عسكري، في جيش عبيد الله بن زياد، يقف أول النهار في مواجهة الحسين، ويقف آخره بجانبه شهيدًا!
ما الذي تغيّر؟
لم تتغير الظروف ولا السياسة ولا العسكر،
الذي تغيّر هو قراره، عندما سمع نداء الروح:
“إني أُخيّر نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئًا”.
لحظة سمو عظيمة. لحظة انكسار للنفس وارتفاع للروح.
الحر انتصر في معركة لا تُخاض بالسيف، بل تُخاض في القلب.
الحسين عليه السلام: معلم السمو وموقظ الأرواح
الحسين عليه السلام لم يُقدّم أطروحة فكرية فقط، بل قدم جسدًا قُطع وروحًا صعدت.
كان يعلمنا أن الأرواح يمكنها أن تسمو، أن تتحدّى الطغيان، أن تتجاوز الخوف، أن تحيا لله.
أصحابه، من مسلم بن عوسجة إلى القاسم إلى زهير إلى الحر… كلهم طلاب مدرسة السمو.
لم يكونوا مخلدين بأجسادهم، بل بأرواحهم.
وما أبقاهم في وجداننا هو تلك الروح المتصلة بعالم الأمر.
العصر الحديث: زمن الجسد أم زمن الروح؟
في زماننا، كل شيء موجه نحو الجسد: الطعام، الموضة، الشهوة، الشهرة…
ولكن قلوبنا فارغة، أرواحنا تئن، نفوسنا تائهة.
ليس لأننا لا نملك، بل لأننا نسينا من نكون.
حسين هذا الزمان، ينادينا كما نادى بالأمس:
“هل من ناصر ينصرني؟”
النصرة اليوم ليست بالسيف… بل بنصرة أرواحنا على أجسادنا، بإحياء ذكره في نفوسنا، لا على ألسنتنا فقط.
الخلاصة:
الروح من أمر الله، وهي جوهر الإنسان الخالد.
النفس تتأرجح بين الجسد والروح، وكل لحظة فيها فرصة للاختيار.
من أراد السمو، فليتبع صوت الروح، فهي طريق العودة إلى الله.
الحر بن يزيد الرياحي هو الأنموذج الصادق للارتقاء، حينما اختار الله على كل شيء.
والحسين عليه السلام هو معلم هذا الطريق، وموقظ الأرواح من غفلتها.
الروح ليست لغزًا فلسفيًّا معلقًا في الكتب، بل هي أنت… حقيقتك الأعمق، صوت الله فيك، صدى السماء في هذا الجسد الفاني.
وفي محراب كربلاء، رأينا الأرواح كيف تسمو وتضيء وتنقش أسماءها في سجل الخلود.
هناك، حيث تُقاس القلوب لا بالأوزان بل بالعشق، وحيث لا يُخلّد الإنسان بدمه بل بروحه.
الحر بن يزيد الرياحي لم يكن مجرد فارس بدّل موقفه، بل كان روحًا قررت أن تطير، أن تكسر قيود الخوف، أن تلحق بنداء الحسين، فكان من الخالدين.
وكل منّا يمكنه أن يكون حُرًّا، ليس بالاسم، بل بالقرار.
في كل لحظة نعيشها، نحن أمام كربلاء مصغّرة، وأمام خيارين:
أن نبقى عبيدًا للجسد، أو أن نكون أحرارًا بالروح.
فإن اخترنا السمو، صرنا من أهل الحسين، وإن هبطنا… صرنا من أهل الدنيا.
اللهم اجعل أرواحنا صادقة في طلبك، واجعلها حرة كما أرادها الحسين، وسامقة كما أرادها علي، ولا تجعلها سجينةً لجسدٍ فانٍ، بل اجعلها نورًا يعرج إليك.
ختامًا: هذه المقالة هي خلاصة ما فهمت واستلهمت من المجلس الحسيني المنعقد في مجلس الإمام الرضا عليه السلام بسيهات، بحي الزهور، ليلة الخامس من محرم الحرام لعام ١٤٤٧هـ، على منبر الخطيب الدكتور الشيخ إسماعيل المشاجرة.