أقلام

مرتقى الكمال (١)

السيد فاضل آل درويش

ورد عن الإمام الحسين (ع): من جاد ساد)(بحار الأنوار ج ٧٥ ص ١٢١).

كم من الكلمات القليلة – كهذه التحفة السنية – تستحق الإعلاء لمكانتها العالية ومضامينها ودلالاتها العميقة، فنسلّط عليها الأضواء المعرفية والتأملية في محاولة لاستخراج اللآليء منها، بما ينير بصيرتنا المعرفية والعملية حينما نربطها بواقعنا وخطانا وعلاقاتنا وسلوكياتنا، فهي لا تشير إلى الجود (البذل دون سؤال من المحتاج) ليس كمظهر خارجي بل هو جوهر ونفس مستدامة على ذلك العطاء ومترسخ فيها جذور البذل والتفاعل الوجداني مع حاجات الآخرين. فهناك من ينشأ ويتربّى على روح الأنانية وتتبع المنافع الخاصة مع تبلد الأحاسيس تجاه حاجات الآخرين، فتنعكس تلك التربية والبيئة الحاضنة له على تصرفاته وتعامله مع الآخرين، دون قدرة على إخفائها متلظيًا خلف قناع زائف من الكلمات الرنانة أو الأسلوب الخادع، فالسلوك الإنساني يسير بوتيرة واحدة في مختلف المواقف بما يكشف عن مكنون الفرد وقناعاته وسلوكياته، ويشير الإمام (ع) إلى نتيجة مؤكدة وأثر كبير لهذا السلوك ألا وهي السيادة، وليس المقصود بها ما يراه أهل الدنيا والمقامات الزائفة من الاعتلاء بين الناس بسبب سلوكهم المخادع بتقديم العطايا لهم طلبًا لتطويع نفوسهم، بل السيادة هنا مفهوم عميق يبتديء توضيح معناه من قدرة الإنسان على السيطرة على نوازع نفسه من إذلال الشهوات والأهواء، فحب النفس السلبي يدفع صاحبه نحو طلب مصالحه دون مراعاة الآخرين أو المبالاة بشؤونهم، ويصبح الفرد حينئذ ذليلًا وعبدًا للمال الذي أسره وكبّله بحبال الطمع والجشع والشح، فلا همّ ولا شاغل له سوى جمع المال وكنزه وتنميته غاضًا طرفه عن أنات المحتاجين، أما الشخص المعطاء فله نظرة خاصة للمال فيكتفي بما يحصّل به مستلزمات الحياة الكريمة له ولأسرته، وينطلق بعدها باحثًا عن سر سعادته وطمأنينته ببلسمة حاجات الآخرين من حوله وتلمّسها، فالجود من أعالي درجات الكرم بعد الإيثار حيث يعطي الجواد قبل أن يؤتى إليه ويبحث عن المكروبين والمعوزين قبل أن يطرقوا بابه.

وهكذا نلتقي مع مفهوم الجود والعطاء من بوابة صنع النفس البشرية وفق معيار وأساس التكامل والسمو الإنساني، فإن الإنسان المكرم بعناية إلهية بذرته ونشّأته تسير وفق الفطرة السليمة في عقله ووجدانه وأفعال جوارحه، ويسمو الإنسان عن عالم البهيمية المسيطر عليه من الشهوات والغرائز؛ ليعانق فضاء القيم النبيلة وتسطير ملاحم التكاتف والتكافل والتفاعل الوجداني مع حاجات الآخرين؛ لأن الجود في مفهومه الشامل لا يقتصر على الجانب المالي وتقديم المساعدة لمن يبصر بعوزه وحاجته إليها، بل هو منظومة عطاء نفسية واجتماعية وثقافية وأخلاقية ومالية تنفتح على حاجات الآخرين، والتفاعل معها بشيء من وقته وجهوده وعلاقاته وتوفير المستلزمات الممكنة، فالجود العلمي تقديم تلك الإضاءات المعرفية والثقافية التي تنير العقول، وتكسبها نضجًا ووعيًا لإدراك الدور الوظيفي في الحياة وبناء المستقبل وفق رؤى وتطلعات تنموية، والجود الاجتماعي سعي تحت مظلة الإصلاح الأسري والمجتمعي من خلال فهم المشاكل والخلافات والسعي إلى ردم فوهات الكراهية والأحقاد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى