حين انكسرت الغريزة عند قدمي الطاعة: قراءة في تجلّي العصمة الصغرى على ضفاف الفرات

أحمد الطويل
هذه المقالة هي نتاج ما فهمت من المجلس الحسيني للدكتور الشيخ إسماعيل المشاجرة في مجلس الإمام الرضا (عليه السلام) بحي الزهور في سيهات، مساء يوم الأربعاء، ليلة الخميس، السابع من شهر محرم الحرام لعام ١٤٤٧ للهجرة.
مقدمة:
عناق الروح لفناء العشق.
ليلة من ليالي الحزن، تجتمع الأرواح المتعطشة للمعرفة والولاء في مجلس الحسين عليه السلام. هدوء يسكن الأرجاء، وقلوب تخفق بالحب والحسرة، والحديث هذه الليلة عن سيدٍ من سادات الوفاء، حامل لواء الحسين، رجلٌ ما شرب الماء، لأن الولاء كان أروى من الفرات.
في مجلس الإمام الرضا عليه السلام في سيهات، حي الزهور، ألقى الدكتور الشيخ إسماعيل المشاجرة خطابًا أشعل الأرواح، وأوقد شموع الفهم في عقولنا عن معنى من أعظم المعاني التي قد تُفهم ولا تُعاش: العصمة، ليس باعتبارها صفة نظرية جامدة، بل باعتبارها واقعًا متجسدًا في رجلٍ لم يطأ عتبة الذنب رغم ظمئه، وفضّل الموت عطشًا على أن يُخدش صفاء طاعته.
التقوى والعصمة: عندما يصير العلم درعًا والروح سيفًا
في الفكر الإمامي، العصمة ليست منعةً قسرية عن المعصية، بل نتيجة للعلم النوراني بحقائق الأشياء. التقوى هي الحاجز الأول، أما العصمة فهي التجلّي النقي لصفاء النفس.
كما قال الإمام علي عليه السلام: “لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا”.
هذا هو حال المعصوم؛ يرى الذنب كما يرى الإنسان الطاهر القذارة. بل يرى المعصية بلحمها النتن، كما عبّر القرآن: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا؟}.
النبي ﷺ أُري الجارية التي اغتابت أختها تأكل لحمًا نيئًا. إذًا، المعصية ليست مجرد قرارٍ أخلاقي، بل قبحٌ وجوديٌ يُدركه القلب الصافي.
العصمة الكبرى: نورٌ لا يُخطئ، ومقامٌ لا يُنقض
العصمة الكبرى، كما يفهمها علماء الشيعة الإمامية، ليست حجابًا يحجب الإنسان عن الخطأ بالقوة، بل نورٌ إلهيٌ في القلب، يجعل الإنسان يرى الذنب على حقيقته، فلا يرغب فيه أصلًا، رغم قدرته عليه.
المعصوم في هذا المقام، ليس معصومًا لأنه لا يقدر أن يذنب، بل لأنه لا يريد أن يقترب مما يغضب الله، حتى لو اجتمعت عليه الغرائز والدوافع. هو من يرى القبيح قبيحًا، والنار نارًا، ولو في صورة ذهب.
فالعصمة الكبرى، كما يصفها العلامة الحلي، هي ملكة راسخة في النفس، تمنع صاحبها من اقتراف الذنوب، عمدًا أو سهوًا أو نسيانًا، سواء في الأقوال أو الأفعال أو النيات، لأنه يعيش دائمًا في حضور الله.
ولأن هذا المقام من أرقى المقامات، فقد جعله الله حكرًا على من جعله حجّة على عباده: النبي، والوصي، والإمام.
هؤلاء وحدهم من لا يُنسب إليهم خطأ، ولا يُحتمل في أقوالهم زلل، لأنهم يُمثلون إرادة الله في الأرض.
فالعصمة الكبرى، إذًن، ليست فقط صفاءً من الذنب، بل اكتمالًا في الوعي، والبصيرة، والعلم، والنية، والسلوك.
هي مقامٌ لا يُولد من مجاهدة، بل يُمنح، لأنه شرطٌ في من يحمل رسالة السماء، ويُنتظر منه أن يكون الحُجة الظاهرة على الناس.
العصمة الصغرى: مقامٌ مكتسب من نور الطاعة
العصمة الصغرى ليست مقام الإمامة، لكنها أعلى درجات التقوى، تلي مقام العصمة الكبرى مباشرة.
هي مقامٌ يُمكن الوصول إليه بالمجاهدة، والعبادة، والسيطرة على الجوارح، وتربية النفس حتى تصبح لا تميل للذنب، لا شهوةً ولا غفلة.
هي أن ترى الذنب، ولكن لا تشتاق إليه.
هي أن تملك القدرة، ولكن تمتنع من موقع البصيرة، لا الضعف.
وقد تجلّت العصمة الصغرى في العباس وزينب عليهما السلام، تجليًا صادقًا حيًّا، يوم الطف.
على شط الفرات: حين انكسر الماء أمام الطاعة
ذلك الرجل، يوم العاشر من محرم، حين وصل إلى الماء، غرفه بيده، رفعه نحو فمه، ولكن تذكّر من بقي في الخيام، من كان لسان حاله يقول: العطش يقتلنا… والعين تنظر إليك.
توقف، ورمى الماء، وقال: “يا نفسُ من بعد الحسين هوني، وبعده لا كنتِ أن تكوني…”
كان يمكنه أن يشرب، ثم يعود ليقاتل. ولكن قلبه لم يحتمل أن ينتصر على إمامه ولو بقطرة ماء.
هناك فقط، رأينا معنى العصمة الصغرى:
أن تموت عن ذاتك، وتحيى لطاعة إمامك، وتغلب الجسد بالروح.
هل العصمة تسلب الإرادة؟
كلا. العصمة، بنوعيها، لا تقتل حرية الإنسان، بل تصعد بها.
المعصوم يرى الحقيقة على ما هي عليه، فيختار الخير عن وعي، لا عن إجبار.
كما أن الأم لا تؤذي طفلها، لا لأن يدها مقيدة، بل لأن قلبها يرفض.
وهكذا كان العباس. لم يشرب لأنه رأى الشرب في تلك اللحظة خيانة للحب، لا ارتواءً للجسد.
لماذا هو؟ لماذا هذا الرجل؟
لأنه لم يُولد معصومًا، بل وصل إلى العصمة بمجاهدةٍ لا تهدأ، وتربيةٍ نبوية، وعشقٍ خالص.
كل حياته كانت مرآة تعكس الحسين.
حين قُطعت كفاه، لم ينظر إلى نفسه، بل صرخ: “إني أحامي أبدًا عن ديني…”
وحين سقط، لم يقل الحسين: “ضاع الساعد”، بل قال: “الآن انكسر ظهري…”
فهو لم يكن أخًا فقط، بل الركن، واللواء، وروح الطاعة المطلقة.
زينب: وجه آخر لنور العصمة الصغرى
ولئن وقف العباس على الفرات، فزينب وقفت على رماد الخيام.
حافية، مسبيّة، مكسورة القلب، ولكنها قالت في مجلس يزيد: “ما رأيتُ إلا جميلًا.”
ما كانت الكلمات طقوسًا، بل مرآة لبصيرةٍ لا تنكسر أمام الدم، ولا تركع أمام الطغاة.
هكذا تكون العصمة الصغرى في امرأة رُبّيت في بيت الوحي.
الخلاصة:
العصمة الصغرى ليست حكرًا على الأئمة، بل أملٌ لكل سائرٍ نحو الله.
هي مقامٌ من نور، يُصاغ بالدمع، والمجاهدة، والتسليم.
والعباس عليه السلام، لم يكن إمامًا، ولكنه بلغ من الطاعة والبصيرة مقامًا تخشع له الملائكة، وتنبهر له العقول، فصار رمزًا خالدًا للعصمة الصغرى، والولاء المطلق لله ورسوله وأوليائه.
على ضفاف الفرات، سقط الماء من يده، لا لأنه لا يستطيع، بل لأنه يريد أن يُعلّمنا أن الطاعة، حين تبلغ ذروتها، تُبطل كل حاجة، وتغلب كل شهوة.
اللهم ارزقنا نظرة ذلك العاشق حين فضّل العطش على خيانة إمامه، وارزقنا قلوبًا تعرفك كما عرفك العباس، واجعلنا ممن لا يشربون حتى يشرب الحسين.
ختامًا: هذه المقالة هي خلاصة ما فهمته من المجلس الحسيني للدكتور الشيخ إسماعيل المشاجرة، في مجلس الإمام الرضا بسيهات، حي الزهور، ليلة الخميس السابع من محرم الحرام لعام ١٤٤٧ للهجرة.