الغرَاف: المودَّة سِتار، والنيّة اقتحام

رقية السمين
في مجتمعاتِنا العربية، وتحديدًا في المجتمع السعودي، تربّينا على المجاملة، وفتحِ الأبوابِ والقلوبِ للناسِ بدافعِ الطيبةِ وحُسنِ النية.
لكن هذه الطيبة استُغِلّت كثيرًا، وسرعانَ ما تحوّلت إلى مبرِّرٍ لسلوكٍ مرفوضٍ اجتماعيًّا، وهو التطفُّل، أو كما يُسمّى باللهجةِ العاميّةِ المحليّة: “الغَرَاف”.
والذي يُمارِس هذا السلوك يُعرَف بالغَرّاف، وهو ليس فضوليًّا عاديًّا، بل محترف، متمكّن، يُتقن فنّ التسلُّل إلى حياتِك الخاصة بابتسامة، وسؤالٍ عابر، وكلمةٍ تبدو في ظاهرِها بريئةً، لكنها تحمل نيّةَ اقتحام، بل أحيانًا “تشليح ناعم” لخصوصيّاتك.
مهارات وفنون الغَرّاف:
ومن فنون الغَرّاف أنّه لا يسألك: “كم راتبك؟”، لأنّه ذكيّ بما يكفي ليعرف أنّ هذا السؤال مباشر وفجّ.
هو يقول لك: “ما شاء الله، دوامكم في القطاع الفلاني مريح، صح؟ يعطي استقرار؟”
وطبعًا، أنت تبتسم وترد: “إي والله، بس الراتب يالله يكفي”، وها قد انفتحت الثغرة!
يبدأ يدخل منها، سؤالٌ وراءَ سؤال، حتى تتحوّل جلستك إلى اعترافٍ مطوّل!
هذا النوع من الناس لا يكتفي بمعلومةٍ سطحية، هو يُتقن الحَفر، بل ويستمتع به.
يسألك: “سمعت إنك بتنتقل، ناوي تشتري؟”
وطبعًا، أنت تشرح له عن أقساطك، ومديونياتك، وشنو خطتك للسنوات القادمة، وكأنك تتكلم مع مستشارٍ مالي، بينما الحقيقة: أنت تتكلم مع شخصٍ لا يعنيه شيءٌ مما قلت، سوى أنّه يهوى التجسّس المغلَّف بـ “الاهتمام”.
والأكيد، عزيزي القارئ، يتبادر إلى ذهنك: ما دوافع الغَرّاف؟
ويسرّني تثقيفك – بعد عدّة تجارب مع الناس الغَرّافين – بأنّ بعضها نفسيّ، وبعضها اجتماعيّ بحت.
أولًا، هناك الغَرّاف الذي يشعر بالدونية، فيبدأ يجمع معلومات عن الآخرين ليقارن، ويطمئن أن حياته ليست الأسوأ.
وهناك من يشعر بالتفوّق، فيغرف ليُشبِع غروره بمعرفة نقاط ضعف الآخرين.
ثمّ نأتي لمن يتغذّى على “السوالف”: شخصٌ بلا شغف، بلا إنجاز، يجد متعته الوحيدة في تتبّع أخبار الناس، وتحليلها، وتوزيعها في المجالس كأنّه يُقدّم “بودكاست خصوصيات”.
لكن، هل تعلم الأخطر من ذلك كلّه؟
أنّ الغَرّاف لا يرى في سلوكه مشكلة، بل يعتبره نوعًا من “الفِطنة” أو “الذكاء الاجتماعي”.
وللأسف، المجتمع لا يردعه كما يجب، بل في بعض البيئات يُكافَأ الغَرّاف بالمعلومة، ويُضحك على فطنته، وتُقال فيه العبارات المضحكة: “فلان يقدر يطلّع من الحجر سالفة!”، وكأنّها مَدح!
الغَرّاف ليس فقط مزعجًا، بل هو شخص يُهين نفسه قبل أن يُزعجك بفضوله، لأنّه حين أقحم نفسَه في حياة غيرِه دون إذن، أسقط من احترامه لنفسه أولًا.
لأجل أن يتسوّل معلومة عنك، ويتلوّن بأساليب ملتوية للحصول عليها، وقد يفخر بأنّه فنان بالغَراف وأتمّ مهمته بإتقان، لكنه في الحقيقة لا يُتقن سوى “امتهان ذاته المستميتة باللهث خلف الآخرين”، وتقديمها كفاكهة على طاولة المجالس.
ولك أن تتخيّل كم من العلاقات الاجتماعية الجيدة تضرّرت بسبب سؤالٍ “غُرّفوي”، أو تعبير يبدو بسيطًا، لكنه كشف عورة خاصة، أو سبّب حرجًا لصاحبه.
كم من أسرار انتشرت لأنّ أحدهم قرّر أن يُمارس هوايته المفضّلة: سؤالٌ موارِب بملامح “مهتمّ”.
تبعات الغَرَاف: ضررٌ يتجاوز حدود الفضول
الغَرّاف لا يترك خلفه مجرد ضيق لحظي أو انزعاج بسيط.
أثره أعمق، وضرره أكثر تسرّبًا ممّا يظنّه كثيرون.
فحين يغرفك شخصٌ ما، فإنّه لا يسلبك مجرد معلومة… بل يسلبك حقك بالخصوصية.
الكثير من الناس أصبحوا يتجنّبون العلاقات الاجتماعية، ويتهرّبون من المجالس، فقط خوفًا من سؤال “غُرّافي” يفتح عليهم أبواب قلقٍ وتطفّل.
بعضهم أصابهم القلق الاجتماعي، خشية أن يتم تداول تفاصيل حياتهم كما تُتداول إشاعات الأسواق.
وكم من بيتٍ تفكّكت أركانه لأن الغَرّاف منهم وفيهم، فيرون أنفسهم مُكرَهين على أن ينأوا بأنفسهم عن فلان الفضولي، مما يُضعف أواصر العلاقات.
أو ذاك الغَرّاف البعيد أوصل معلومة ناقصة أو محرّفة إلى أطراف لا ينبغي أن تصلهم فيسبب توتر بين أفراد أسرة واحدة !
وكم من صديقين انقطعت صداقتهما، ليس لأنّ أحدهما أساء، بل لأن أحدهم سمح لغَرّاف ثالث أن “يغرف” ويحرّف ويزرع الشك.
وهنا تتجلّى لنا الحقيقة التي يتغافل عنها الكثير:
أنّ “الغَرَاف” ليست مجرد عادة سيئة، بل قد تكون سببًا مباشرًا في خلق فجواتٍ عائلية، ونزاعاتٍ اجتماعية، وحتى حالاتِ عزلةٍ نفسية.
إنّ الإنسان حين يشعر أن خصوصيّته مستباحة، وأنّ هناك من يتصيّد لحظاتِ ضعفه ليحوّلها إلى حكايةٍ مشاعة، سيفقد ثقته بالناس، وسيبدأ ببناء جدارٍ عازل، ليس حمايةً فقط، بل نأيًا عن مصدر التطفّل.
هذا الجدار قد يحميه ظاهريًا، لكنه يعزله داخليًا، ويجعله دائمًا في وضعيّة دفاع، حتى في علاقاتٍ يُفترض أن تكون دافئة وآمنة.
تأمّل حجم الضرر الذي يسبّبه سؤال “بريء” مثل:
“سمعت إنك متضايقة هالفترة؟ من مشاكل البيت ولا الشغل؟”
قد ترد وأنت: “يا غافلين لكم الله” ببساطة، لكن ما إن تنتقل المعلومة خارج إطارها، حتى تتشكّل رواية كاملة عن حياتك، أنت نفسك لا تتعرف عليها وهنا نتعرف على أكبر عامل إثارة، والذي يرفع الدوبامين إلى أقصى مستوياته لدى الغَرّاف.
حيث إنه يُحوّل القصص الشخصية إلى مادة استهلاك، ويجرّد الإنسان من خصوصيّته كما تُجرَّد الورقة من غلافها.
كل ذلك تحت شعار: “أنا بس أسأل من باب المودّة!”
وأي مودّةٍ هذه التي تُنبت القلق وتُربّي الريبة في العلاقات الأسرية والاجتماعية؟
إنّ التطفّل لا يقتل العلاقات الأسرية والاجتماعية فحسب، بل يعرّضها للموت البطيء، يتركها تنزف الثقة والطمأنينة على مدى طويل.
ولأخذ الحيطة والحذر للمستقبل، عزيزي القارئ:
إليك بعض علامات الغَرّاف الواضحة:
• لا يكتفي بجوابك، بل يعود بصيغة ثانية وثالثة، ويطرح الموضوع نفسه من زاوية مختلفة.
• وإذا تهرّبت، يتصنّع أنه مستاء، أو يلمّح بأنّك مغرور أو كتوم، أو “شايل نفسك على كف”.
• بل ربما يرمي نكتة ثقيلة مثل: “شَدعوة؟ ومانشتغل في المباحث!”، وهو في الحقيقة، يقوم بدور المباحث وأكثر!
وفي هذه المرحلة، يجب أن نعيد النظر في تعاملنا مع هذا النوع من الناس.
السكوت مجاملة؟ لا. السكوت جريمة بحقّ نفسك.
لأن كل مرة تجيب، تفتح له الباب أوسع. وكل مرة تضحك مجاملة، تشرعن سلوكه، وتجعله يكرّر ذات الأسلوب مع غيرك.
كيف تتعامل معه؟
1. لا تُجِب. غيّر الموضوع بسلاسة.
2. لا تعتذر عن عدم الإجابة، بل خذ راحتك في الحدّة المغلّفة بمزح، مثل اللقافة المغلّفة بالاهتمام.
(أي داوِها بالتي كانت هي الداء).
لأن الحدّة في هذه الحالة ليست وقاحة، بل دفاع عن مساحتك الخاصة وحياتك.
3.وآخر مخرج؟
فقط قُلها صريحة: “هذا موضوع خاص، ما أحب أتكلم فيه.”
في الختام، الغرَاف ظاهرة يجب أن تُسمّى باسمها، وتُدان كما تُدان أيّ سلوكيات اجتماعية مرفوضة.
خصوصيّات الناس ليست للعرض، ولا للنقاش العام.
وإذا كنت تعتبر “سحب الكلام” مهارة…
فاعلم أنك تمارس امتهانًا لخصوصيات الغير ولنفسك.
فإمّا أن تكون شخصًا يحترم حدوده…
أو غَرّافًا يضحك الناس عليّك وعلى علومك، لا معك.