أقلام

البيئة، القابلية، والخلود: تأملات في فلسفة التمايز الإلهي

أحمد الطويل

مقدمة:

في مجالس الذكر والولاء، حيث يتجدد العهد مع أهل البيت عليهم السلام، تتجلى سيرتهم كأنها نور لا ينطفئ، ويعود الزمان ليحملنا إلى لحظات صنعت الخلود. ومن بين تلك اللحظات، تقف سيرة شاب علوي شامخة، كأنها مرآة للنبي محمد ﷺ، خَلقًا وخُلقًا ومنطقًا.

حين يُذكر هذا الشاب، يُستحضر الجمال في أكمله: الجمال الروحي والظاهري، الخُلق النبوي، والكلام المحمدي، الشجاعة، والتسليم التام لله.

هذا المقال يستعرض ومضات من سيرة هذا الفتى الذي لم يكن مجرد ابنٍ لإمام، بل كان نُسخة حية من رسول الله ﷺ تمشي في كربلاء وتُجسّد النبوة في أحلك ساعاتها.

الولادة المباركة بين رحم الطهر وأصلاب الهدى

في دعاء عرفة، يقول الإمام الحسين عليه السلام: «فلم أزل ضاعنًا من صلب إلى رحم، في تقادم من الأيام الماضية والقرون الخالية… ولكن أخرجتني لما سبقني من الهدى».

هذه الكلمات ترسم خريطة وجودية فريدة، حيث يبرز جيلٌ مختار من الطهر، تتجسد فيه أنوار النبوة والإمامة.

إنه مسار مقدس، لا يصنع الأجساد فقط، بل يصوغ الأرواح، ويؤهلها لحمل مشعل الرسالة في أصعب اللحظات.

خلقًا وخُلقًا ومنطقًا: الشبه النبوي المذهل

يقول الإمام الحسين عليه السلام عن ولده علي الأكبر: «اللهم اشهد، فقد برز إليهم غلام، أشبه الناس خلقًا وخُلقًا ومنطقًا برسولك».

وهذا الشبه لم يكن مجازيًا ولا عابرًا، بل كان شبهًا ظاهرًا ومُجسدًا في السلوك والصوت والملامح.

فقد رأى الناس في علي الأكبر صورةً ناطقة بالنبي محمد ﷺ، حتى قيل: كأن محمّدًا قد عاد في شبابه الهاشمي.

لكن من المهم أن نُدرك أن هذا الشبه لا يعني أن عليًّا الأكبر أشبه برسول الله من الإمام الحسين نفسه، فالحسين عليه السلام معصوم، وهو الامتداد الحقيقي للنبي في مقام الإمامة.

وإنما مقولة الإمام تعني أن علي الأكبر أشبه الناس من غير المعصومين، فكان مثالًا جليًا على النور المحمدي في مقامه البشري العالي.

وفي منطقه، كان منطقه محمديًّا: فيه الحكمة، الرحمة، والبيان: وكأنّ الله شاء أن يُواجه أعداء الحسين صوت النبوة وهيئتها وأخلاقها من جديد، لتسقط كل حججهم، وتُفضَح قسوة قلوبهم.

بيئة الطهر وصناعة العظمة

البيئة التي نشأ فيها هذا الشاب لم تكن عادية؛ كانت مصنعًا للأنبياء والأولياء.

بيت نبتت فيه النبوة، ونمت فيه الإمامة، وتفجّر فيه القرآن سلوكًا قبل أن يكون نصًا.

وفي هذا توضيح مهم لإشكالية فلسفية متكررة:

هل يولد بعض الناس في بيئة إيمان وآخرون في بيئة كفر ظلمًا؟

الجواب في دعاء الإمام الحسين: «ولكن أخرجتني لما سبقني من الهدى».

فالاختيار للإيمان يبدأ قبل الميلاد، في عالم الذر، حين سألنا الله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ فأجبنا: ﴿بَلَى﴾.

من هنا نفهم أن النقاء ليس صدفة، بل نتيجة اختيار سابق، وتراكم نوراني، يظهر في هذه الدنيا كتميّز مشروع، لا تمييز ظالم.

تمايز وليس تمييزًا: فلسفة الاختلاف الإلهي

لماذا نختلف؟

هل هذا الاختلاف في الجمال والذكاء والفرص دليل على عدم العدل؟

الجواب: لا. لأن ما يجري هو تمايز لا تمييز.

التمييز فعل بشري يقوم على التفرقة الظالمة، أما التمايز فهو اختلاف ناتج عن قابليات مختلفة.

كل إنسان إناء، والله يفيض على قدر ما يسع هذا الإناء.

وقد تساءل الدكتور الشيخ إسماعيل المشاجرة في أحد المجالس الحسينية:

كيف يمكن لإناء صغير أن يحمل ما يحمله إناء واسع؟

الله لا يمنع، لكن القابلية تفرِض حدود ما يمكن أن يُعطى.

عالم التزاحم وسرّ اختلاف المصائر

الوجود المادي تحكمه قوانين، ومنها قانون التزاحم؛ أي تضارب المصالح وتداخل الإرادات.

رُبّ إنسان يولد في فقر، وآخر في رخاء، ليس ظلمًا من الله، بل نتيجة تزاحم الأسباب في الدنيا.

مثلما تنافس نبتة ويرقة على مورد واحد، فينتفع أحدهما ويتأخر الآخر، لا لأن أحدهما أفضل عند الله، بل لأن الموارد محدودة.

وقد طرح الدكتور الشيخ إسماعيل المشاجرة مثالًا مؤثرًا في المجلس يوضح هذه الفكرة: رجل له ابنتان: إحداهما زوجة فلاح، تطلب من والدها أن يدعو الله لنزول المطر كي ينبت الزرع، والأخرى زوجة خزّاف، تطلب منه أن يدعو لعدم نزوله حتى لا يفسد الخزف.

كلاهما مؤمنتان، ولكل منهما مطلب صادق ومشروع.

لكن الموارد متزاحمة، والظروف لا تسع الاثنين معًا.

فبمن يُستجاب؟

ليس هذا دليلًا على تفضيل إلهي، بل على طبيعة هذا العالم المحدود الذي تتزاحم فيه النتائج والمصالح.

وهكذا نفهم أن اختلاف المصائر لا يعني ظلمًا، بل هو انعكاس لقوانين طبيعية أذن الله بوقوعها، وجعل الآخرة دار الكمال والتعويض والعدل التام.

العقل البشري ونسبية الكمال

الإنسان لا يرى الكمال مطلقًا، بل نسبيًا.

ينظر إلى من هو أغنى منه، فيتحسّر. يرى من هو أذكى منه، فيتمنى لو كان مكانه. وهكذا يعيش في وهم المقارنة.

لكن الحقيقة أن لكل إنسان خارطة وجودية خاصة، اختارها وسعى إليها، وله دوره الذي لا يؤديه سواه.

ولو أردنا جميعًا أن نصبح شخصًا واحدًا نراه أكمل منّا، فسنلغي التنوع، وسنُناقض حكمة الخلق التي قامت على التمايز.

ومن هنا، فمحاولة الاعتراض على تفاوت الناس هي اعتراض على حكمة التنوع، وهو اعتراض مبني على تصور خيالي، لا واقعي.

حين تجسّد النور في ساحة الخلود

عندما برز ذلك الشاب العلوي للقتال في كربلاء، شهق الإمام الحسين عليه السلام قائلاً: «اللهم اشهد، فقد برز إليهم غلام، أشبه الناس خلقًا وخُلقًا ومنطقًا برسولك».

لقد كان خروجه خروج القيم النبوية وهي تمشي إلى الشهادة.

وكانت شهادته شهادة على أن قلوب أعداء الحسين لم تعد ترى الحق، ولو تجلّى في أنقى صوره.

قال وهو يحتضر: «يا أبت، العطش قد قتلني، وثقل الحديد أجهدني، فهل إلى شربة ماء من سبيل؟»

فقال له الحسين: «بُنيّ، ما أسرع ما تلقى جدك رسول الله، فيسقيك بكأسه الأوفى، شربة لا تظمأ بعدها أبدًا».

الخلاصة:

تأملنا في هذه المقالة سيرة شابٍ من بيت العصمة جسّد في كربلاء ملامح النبوة خَلقًا وخُلقًا ومنطقًا. وانطلقنا من هذه السيرة لفهم فلسفة التمايز الإلهي بين البشر، بين اختلاف القابليات، وظروف البيئة، وقانون التزاحم، لا باعتبارها تمييزًا ظالمًا، بل كامتداد لاختيارات الإنسان السابقة وحكمة التنوع في الخلق.

فالعدل الإلهي لا يُقاس بالتشابه في الفرص، بل بتكافؤ الرحمة والفرص الروحية، وتعويض النقص في دار الآخرة.

وهكذا، يبقى النموذج الذي رأيناه في كربلاء شاهدًا على الجمال الإلهي حين يتجلى في إنسان، وعلى عمق الحكمة حين تفاضل الله بين الخلق وفق قابلياتهم.

اللهم ارزقنا خُلق النبوة، وبصيرة الأولياء، وثبات العارفين، وشرف الشهادة في طريق الحسين عليه السلام. ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا كما رضيت عن أهل الطف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى