أقلام

خطاب المنبر الحسيني الفكري

علي الوباري

في دولة مثل العراق التي ولد فيها المنبر الحسيني، وتراكمت تجاربه بحيث برز أفضل الخطباء في بيئة ثقافية اخرجت علي الوردي، وإبراهيم الحيدري، وعبدالجبار الرفاعي، ويحيى محمد، في هذه البلد بالرغم من تاريخ المنبر الحسيني وفاعليته لم يغلب على مضمون الخطاب الاتجاه الفكري كقالب ومضمون كما هو في منطقتي الأحساء والقطيف.

وحتى نعًرف الخطاب الفكري نجد أنه الخطاب الذي يغلب عليه اتجاه فكري يتناول القضايا العصرية بأفكار ومفاهيم حداثية تتناول الواقع بمكوناته التربوية والاجتماعية والثقافية، مستشهدين بتعريفات وأقوال المفكرين والفلاسفة في العصر الحديث.

لماذا يتسم خطاب المنبر الحسيني في منطقتنا بالمواضيع الفكرية عند بعض الخطباء وأن كانوا قلة، مقارنة بدول الجوار مثل البحرين والكويت والعراق؟، وإذا ضرب المثال عن المواضيع العصرية يشار بالبنان إلى خطباء الأحساء والقطيف.

بالرغم أن من يطرح خطابًا منبريًّا فكريًّا لا يتجاوزون عدد الأصابع محليًّا، ولكن محاضراتهم تحدث ردود أفعال واسعة في وسائل الإعلام الاجتماعي، وتعقب بنقاشات مستفيضة في الاجتماعات، وفي أدوات التواصل الاجتماعي.

أعتقد أن بروز هذا النوع من الخطاب سببه المثقفون، فهو منتج التداولية الثقافية بالأساس، ولا أقصد أنه ليس لدى الخطباء القدرة على طرح مثل هذه المواضيع الفكرية ابتداءً، ولكن لولا النقد المكثف للخطاب والخطباء في السنوات الماضية من المثقفين بعد ما توافرت لهم منابر رقمية مثل أدوات التواصل الاجتماعي، حيث عبروا عن ما يدور في فكرهم بعلامات الاستفهام المشككة في قدرة القائمين على الخطاب المنبري بعدم مواكبة القضايا الثقافية العصرية، وامتلأت أدوات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية بأسئلة لدرجة الاتهام مثل خطاب المنبر الحسيني في موسم عاشوراء بأنه جامد؟، لماذا لا نواكب الثقافة العصرية ونتحدث في شؤون حياتية تهم الفرد مثل علم النفس والترببة وعلم الاجتماع بمفاهيمه الحديثة؟ لماذا لا يكون لدينا خطاب فكري مواكب ويرد فيه على الإشكالات الإلحادية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية، وهذه الأسئلة وجهت مباشرة، بعضها أسئلة بريئة وبعضها تشكيكي يعجز الخطباء عن تقديم خطاب فكري يرد على إشكالية ما يستجد، وبعضها أسئلة استفزازية.

هل من سبقنا في الخطاب المنبر الحسيني أو نقول الأكثر انتشارًا كخطاب فكري مثل العراق التي كانت ساحة لصراع الأفكار والتيارات الحداثية بواسطة أسماء لها فاعليتها بمنتجات ثقافية تجاوزت وطنهم حتى عميد المنبر الشيخ أحمد الوائلي لم يتسم خطابه مثل ما يطرح الآن بالرغم من موسوعته الثقافية، لماذا لم يظهر خطاب فكري بموسم عاشوراء في دول مجاورة مثل ما يحدث في الأحساء والقطيف تحديدًا؟.

أعتقد أن من الأسباب التي دفعت ببعض الخطباء إلى إنتاج خطاب منبري فكري هو طبقة خريجين الجامعات والاكاديميات في منطقتنا التي يغلب على اختصاصهم الهندسة والعلوم التجريبية، وكثير منهم خريجو جامعات غربية وبالذات جامعات أمريكية بحيث أصبح تعليمهم الأكاديمي يخاطب العقل وثقافتهم اكتسبوها من الثقافة الغربية، وانتقلوا إلى شركات غالبيتها شركات صناعية وهندسية،وهم يختلطون مع جنسيات مختلفة في عصر الثورة الصناعية الرابعة.

إن انتقال المعلومات والكتابات بسرعة في أدوات التواصل الاجتماعي، يجعلها تصل إلى كل فرد، بمعنى أن الإعلام الاجتماعي أصبح سلطة مؤثرة في المجتمع، ولكن ليس وسيطًا رصينًا وفاعلًا في تأسيس ثقافة نقدية يعول عليها للتغيير الثقافي والفكري وتطور خطاب المنبر على الأقل حتى الآن.

أولًا، ينبغي الاتفاق على أن اهم أدوات تطوير الخطاب الثقافي مثل خطاب المنبر الحسيني هو النقد الموضوعي البناء، ولا ينبغي التحسس من نقد هادف يذكر الإيجابيات والسلبيات ويتناول الموضوع من أجل تحسينه، وجمهور الحضور والمستمعين معنيون بمضامين خطاب المنبر الحسيني، بل هم الهدف للخطاب الحسيني فهم مشاركون فيه بالتفاعل الإيجابي خصوصًا أن الحضور مؤهل علميًّا، والمهتمون بالخطاب على قدر واسع من المعرفة والثقافة.

النقد للخطاب الثقافي بصورة عامة في الدول العربية بدأ بمشاريع تأليفية في قوالب نقدية محكمة أو معتمدة بمعايير من قبل المثقفين والأكاديميين من خلال وسائط معرفية معروفة مثل الكتب والمجلات والصحف والدوريات التي تنشر فيها الدراسات ومع هذا لم يخلُ النقد من تحيز ذاتي ونظرة شخصية واتهامات من الناقد والمنقود، والرفض الكلي، وعدم الاعتراف بالنقد أحيانًا.

مع سلبيات أدوات التواصل الاجتماعي الرقمية إلا أن نقد الخطاب المنبر الحسيني من خلالها له إيجابيات، ومؤثر نسبيًّا، ولكنه يبقى محدودًا بسبب عدم الطرح الموضوعي العقلائي في أكثر ما يكتب، لأن ما يقدم في أدوات التواصل الاجتماعي تقييم ذوقي واستحساني، ومجتزأ بمعنى أنه يركز على نقاط معينة حسب وجهة نظر المعلق أو الكاتب، وفي نقده يضع نفسه ميزانًا ومعاييره هي الأقرب للصواب والمطورة للخطاب بغض النظر عن رسالة وأهداف الخطاب المنبري في موسم عاشوراء وعدم مراعاة شرائح المجتمع المختلفة في مستويات التعليم والثقافة.

أمر آخر وهذا يقع على عاتق الخطباء الذين لا يؤمنون بأدوات التواصل الاجتماعي، ويعتقدون أن كل ما ينشر في أدوات التواصل الاجتماعي لا يفيد ومضيعة للوقت ولا يستحق المتابعة، وهذه نظرة غير دقيقة وفي غير محلها، فهناك بعض المجموعات الرصينة يُطرح فيها مواضيع ومقالات جادة ومفيدة، وكتاب ومثقفون ينشرون مقالات وتعليقات تستحق القراءة ومن الممكن أن تساهم في التطوير والتقارب الثقافي.

عزوف معظم الخطباء والقائمون على الخطاب المنبري عن أدوات التواصل الاجتماعي وعدم اهتمامهم بما يكتب في مجموعات تهتم بالشؤون الثقافية جعلهم بعيدين عن ما يناقش ثقافيًّا وما يهم الشباب في هذه الوسائط التي أصبحت مصدر معلومات ومعرفة، بل أدوات التواصل الاجتماعي ستفرض نفسها مستقبلًا بشكل أقوى كمصدر ثقافي في واقع لا ينبغي تجاهله، لأن جمهور المستمعين يعتبرونه مصدرًا مهمًّا ولا يخلو يوم لا يتحدث عن مضامين ما ينشر في الوسائط الرقمية.

الاعتراف بأن أدوات الإعلام الاجتماعي الرقمي أصبح جزءًا في حياة الأفراد والمجتمعات يؤثر في ثقافتهم وتؤسس معارفهم وتثير فيهم التساؤلات والاستفسارات، وهي بداية التصحيح في عملية النقد البناء فهي حلقات اتصال للنقاش والحوار والتثاقف.

بعض الشيوخ والمثقفين ينادون باقتصار خطاب المنبر الحسيني بمحرم على ذكر المصيبة وسرد الأحداث المصاحبة لنهضة كربلاء كأسلوب تقليدي متعارف عليه، ولكن في ظل تنوع مواضيع الخطاب المنبري بين خطاب منبري سرد للمصيبة وهو الأكثر وبين مجموعة قليلة من الخطباء تتناول مواضيع فكرية، لماذا لا يبقى الحال كما هو في ظل خيارات عديدة متاحة للجميع، ويحق لكل فرد اختيار ما يرغب فيه ويناسب توجهاته، ويجد ضالته فيه عاطفيًّا وفكريًّا.

سيبقى خطاب المنبر الحسيني المؤثر في الوعي الجمعي مهمًّا للمرسل والمستقبل ومضامين رسالته تهم طرفي الاتصال، ولذا لا غنى عن التفاعل بينهما، وأحد مؤشرات تطوير الخطاب هو اهتمام بعض الخطباء بالمراسلة طلبًا من المهتمين بطرح عناوين ومواضيع موسم عاشوراء، وكذلك اختتام كل موسم عاشورائي تعقد جلسة حوار تفاعلي بين الخطيب وجمهور الحضور، وأيضًا ما يكتب قبل وبعد الموسم مفيدًا لتطوير خطاب المنبر الحسيني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى