أقلام

حين تكلّم الوعي بلسان الشهادة

أحمد الطويل

مقدمة:

في زمنٍ تتكسّر فيه المبادئ على صخور المصالح، ويضيع فيه الشباب في تيارات عدم المعنى، يخرج من قلب التاريخ فتى هاشمي، لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، ولكنه سبق شيوخ الساحات في البصيرة، وغلب كبار السياسة في الوعي.

إنه من أبناء بيتٍ اصطفاه الله، بيتٍ لا يُقاس بعمر الجسد بل بنضج الرسالة.

هو القاسم بن الحسن، ليس مجرد اسم في كتاب المقاتل، بل عنوانٌ متّقد للغيرة، والطاعة، والوفاء الهادئ.

ذرية بعضها من بعض

قال تعالى:{إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَٰهِيمَ وَآلَ عِمْرَٰنَ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ.. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

هذه الآية تفتح أمامنا شجرة الطهر، التي تفرّعت منها أغصان مباركة، ومنها غصن شاب اسمه القاسم، ابن الحسن المجتبى، وحفيد علي وفاطمة، وامتداد المجد والرسالة.

النسب في هذا البيت ليس شرفًا فقط، بل تكليفًا؛ نارًا تطهّر من يقدّرها، وتحرق من يفرّط بها.

عقل راجح في جسدٍ غض

حين سُئل القاسم عن الموت قال: “فيك أحلى من العسل، يا عمّاه.”

ليست جملة شاعر، ولا نغمة عاطفية، بل عقيدة مقاتل عارف.

كان بالغًا، مكلفًا، مدركًا لما يقدِم عليه. ولو لم يكن كذلك، لما أذن له الإمام الحسين عليه السلام.

في عمرٍ يتأرجح بين الطفولة والصبا، استقام في خط الولاية بثباتٍ يحسد عليه الرجال.

غيرة الدين لا الدم

حين سمع القاسم عمّه الحسين يقول: “وسيُقتل عبد الله الرضيع…”

تحرك قلبه، ليس فقط شوقًا للشهادة، بل غيرةً على الطهر، على الخيام، على عرض فاطمة وزينب.

فقال: “يا عم، أَوَ يصل القوم إلى الخيام؟!”

أي وعيٍ كان يحمل؟

لقد رأى المعركة دفاعًا عن الشرف، لا مجرد صراع سيوف. هذه غيرة هاشمية صافية، لا تعرف للدم طريقًا إلا عبر الدين.

خطوة لا تسبق الإمام

رغم هيجان المعركة، ورغبة الفتى في القتال، لم يتجاوز إمامه.

ما أروع أن يرى الشاب إمامه بوصلته، وأمره تكليفه.

ما خرج حتى أُذن له، فصار خروجه قبولًا، وشهادته كمالًا.

فكل خطوة دون إذن الإمام… هلاك، مهما كانت نواياها.

على قدمَيه في وجه الفرسان

تأمل المشهد: فتى على قدميه، يواجه فرسانًا مدججين، لا يُمسك سيفه استعراضًا، بل يقينًا.

قاتل قتال الأبطال، ولم يُصَب حتى انقطع شسع نعله!

لم يكن ثغرة في الجبهة، بل نارًا تمشي.

شجاعته لم تكن طيشًا، بل ثمرة تربية وولاية.

قداسة الحقيقة لا خرافة المجالس

رغم عظمة هذه الصورة، حاول البعض تلويثها بخرافة زواجه في كربلاء.

كيف؟ والحسين في تلك الليلة كان منشغلًا بالتهيؤ للبلاء، وكانت ليلة وداع لا زفاف!

هذه القصة، وإن ذُكرت في بعض الكتب المتأخرة، لا سند لها ولا قيمة علمية.

كبار العلماء أنكروها: السيد محسن الأمين، الشيخ الشوشتري، الشيخ المظفر، والسيد شرف الدين.

وقد قال الإمام الصادق عليه السلام: “من روى عنا حديثًا فكذبنا به، فهو أحد الكاذبين علينا.”

الرواية دون تحقيق… خيانة.

والكذب باسم المحبة… يسيء لا يُحسن.

فتى يُعلّم الشباب الرجولة

أيها الشباب، إليكم هذا الفتى الهاشمي، الذي لم تفتنه الدنيا، ولم تغوهِ زخارفها، ولم تزلزله مشاهد الحرب، ولا سطوة الموت.

كان قلبه معلقًا بالإمام، وعينه لا ترى إلا طريق الشرف.

لم يضعف أمام الهوى، ولم يرتبك في حضرة القرار، ولم يخالف أمر إمامه، رغم توهّج الرغبة في القتال.

كان وفيًا لأبيه الحسن، فلم ينس نسبه، ولم يخجل من اسمه، بل نادى بفخرٍ في ساحة القتال: “إن تنكروني فأنا نجل الحسن…”

هو فتى لم يحمِ سمعته فقط، بل صان شرف أمه، وحفظ ستر عمّاته، وغار على الخيام كأنها جزء من قلبه.

لم يكن يعيش في زمن التيك توك ولا في خضم صراع الشهوات، ولكنه خاض حربًا من نوع آخر: حربًا على النفس، على الخوف، على الانفعال غير المنضبط.

فهل نعرف اليوم من نحن كما عرف القاسم نفسه؟

وهل نحمي أسماء آبائنا كما حمى هو اسم الحسن؟

وهل نعرف إمام زماننا كما عرف إمامه، وأطاعه، وانتظر إذنه قبل كل خطوة؟

الخلاصة:

وعيٌ يُقاتل وغيرةٌ تُصان.

القاسم بن الحسن عليه السلام لم يكن صبيًّا على هامش كربلاء، بل كان فتىً بالغًا، راجح العقل، نقي البصيرة، ناضج الإيمان.

حين قال الحسين: “وسيُقتل عبد الله الرضيع”، لم ينهَر، بل سأل بغيرة: “أَوَ يصل القوم إلى الخيام؟”

دفاعًا عن ستر آل محمد، لا خوفًا على نفسه.

قاتل راجلاً في وجه فرسان، وصمد حتى الغدر، لا الضعف، أوقعه.

أما قصة زواجه، فهي خرافة لا أصل لها، تُسيء ولا تُنصف، وكذب على المعصومين حتى لو حُكي بنيّة طيّبة.

إن الخطيب والمبلّغ مؤتمَن، وأهل البيت أمانة.

ومن أراد أن يُخلّد القاسم، فليحمل غيرته، ويقتدي بشجاعته، ويلتزم صدقه.

وليردد كما قال هو:

“إن تنكروني فأنا نجل الحسن…”

اللهم اجعلنا من أبناء النهج الحسني، وحملة الغيرة القاسمية، الصادقين في الولاء، الثابتين على درب الطهارة، ولا تكتبنا من الغافلين الذين يسيئون بحسن نية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى