حمم تتقاذف !!

السيد فاضل آل درويش
فكرة السلوك المفاجيء (الغضب والزعل الشديد) البارز كردة فعل لما يواجهه الفرد من ضغوط وصعوبات حياتية، تمثل تصورًا عند البعض في تفسيره لما يراه من مواقف وتصرفات الآخرين، وقد يراها البعض كسلوك غير مفهوم ولا يمكن تبريره وإنما صدر بسبب الجهالة أو منطقة الفراغ غير المرئية، وهذا ما يجعل فكرة البحث عن العوامل المؤثرة في حدوث الصورة لهذا السلوك غير مجدية ولا نتائج مثمرة من السير خلفها.
ولكن الحقيقة أن الداخل الإنساني يمتلئ ويزدحم بمجموعة من الصور إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي يفيض على صورة سلوك حاد وانفعال شديد، فعندما ترى ردة فعل قوية أو سيلًا من الكلمات القاسية غير المتناسبة مع فعل معين، فاعلم أن الأمر يعود إلى دائرة التراكمات السلبية والمواقف المتكررة التي لم تُمسح أو تعالج بذاكرة النسيان والتجاهل، فهناك تراكمات لمواقف وأحداث تعمل في تأثيرها على الجانب النفسي والانفعالي شيئًا فشيئًا، حتى تتشكّل كتلة متفجرة لا يتحمّل الفرد السيطرة عليها فتنفجر لأدنى مواقف بنحو الحمم النارية، فعامل الزمن لم يُلحظ في هذا السلوك الذي تتم مقارنته بالأفعال اللحظية ليدخل في الدائرة غير المفهومة وغير المتوقع صدور رد قوي مقابلها، فردات الفعل العنيفة سكنت في البدء كثقل ضاغط على النفس بقدر بسيط ولم تتم معالجته، ثم بدأ ينمو و يتوسّع بصمت حتى جاءت تلك اللحظة المعبّرة عن تراكم زمني فاجأ الآخرين.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الضابطة الأخلاقية والعقلائية المتعلقة بضبط النفس وإدارة مشاعرها والتحكم بانفعالاتها، فهو لا يشير إلى المواقف اللحظية التي تضغط على الفرد عندما تتم الإساءة له أو استفزازه، بل هي ضغوط ومشاعر مكبوتة قد تتكرر إثارتها والصمت عن التعامل مع مصادرها، ثم ما يلبث هذا الخزان المتفجّر من المشاعر الغاضبة أن يثور في وجه الآخر، وضبط النفس يعني المعالجة اللحظية بتجاهل تلك الإساءة ومسحها من الذاكرة حتى لا تتحوّل إلى مشاعر ضاغطة مكبوتة، وهذا ما يسلّط الضوء على الأفعال الغاضبة بشكل عنيف دون وجود مبررات لهذا المستوى العالي من الانفعال، والقراءة المطروحة هي فهم السلوك الإنساني الغاضب في مستوياته العالية وغير المفهومة بأنه نتاج تراكم مواقف مؤلمة، فصمت الفرد عن الإساءة أو التجاهل لوجوده أو حديثه لا يعني بالضرورة رضًا وقبولًا، بل هناك تسرّب لهذا الموقف المسيء في النفس وترسّخ يحتاج إلى معالجة وحلول، فإما أن يعتذر المسيء ويعبّر عن تأسّفه الشديد لما صدر منه تطييبا لخاطره، وإما أن يتعامل من وقعت عليه الإساءة وفق مبدأ التجاهل والتغاضي طلبًا للتصالح مع الذات وبعدًا عن اسوداد القلب بمشاعر الكراهية، وإلا فإن هذه الإساءة أو الاستفزاز سيتحوّل إلى شرارة تشتعل بعد فترة قاذفة اللهب!!
فلنحذر من تلك اللحظات الصامتة بعد أي خلاف أو نقاش حاد أو انفعال شديد أعقبه هدوء، فهذا لا يعني عدم المبالاة، بل هو شكل من أشكال الألم والخيبة من الطرف الآخر وفقدان الثقة بجدوى المناقشة والرد عليه، ففي داخله مساحة تتسع مع الأيام وتكرار المواقف المتشنجة لتتحوّل إلى تنور ملتهب من مشاعر الخذلان والخيبة.