أنيسُ الأرواح

عماد آل عبيدان
أعترف! كنتُ واحدًا من أولئك الذين لا يفتحون المصحف إلا في شهر رمضان، كأنّه هلالٌ لا يُرى إلا مرة كل عام. نقرأ صفحاته بخشوعٍ موسمي، ونختمه بدمعةٍ موسمية، ثم نغلقه… ونُغلق معه شيئًا في قلوبنا، حتى إشعارٍ آخر. وربما نعود إليه في فاتحةٍ، أو عزاء.
ولكنني لا أنسى تلك اللحظة…
كانت بعد مغرب يومٍ مضى عليه أعوام. جلستُ بمكاني بعد الصلاة، لا لأنني خاشع، بل لأن هاتفي لم يكن في جيبي. لا إشعار، لا اتصال، لا ضجيج. لحظة فراغ… ولكنها لم تدم.
كان المصحف أمامي، يلمع بغلافه الأخضر كأنّه يهمس: “اقترب.”
لم ينزل ضوء، لم أسمع نداءً، ولكنّ شيئًا داخلي استيقظ.
مددتُ يدي، فتحته، وبدأت أقرأ…
صفحة… ثم أخرى.
لا لأنني التزمت، بل لأنني ارتويت.
كان قلبي كمن يُصفق فرحًا، كأنّ شيئًا غير مرئي يُربّت على روحي المنهكة ويقول لي:
“أنا هنا… لم أتركك.”
منذ ذلك اليوم، عقدتُ مع القرآن صُلحًا لا موسم له.
قرّرتُ أن لا أكون ممن قال عنهم النبي “ص”:
“وقال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا.” (الفرقان: 30)
أيعقل أن نهجر كتابًا هو عزاؤنا في الوحدة؟
وهو دليلنا حين تضيع البوصلة، ونورنا حين يعمينا الغسق؟
قد يقول أحدهم: “وقتي لا يسمح”، فأبتسم.
لأني جرّبت، ولا زلت، أن أقرأ صفحتين فقط بعد كل صلاة.
وأنا على سجادتي، قبل أن يبتلعني يومي بضجيجه.
ثلاث دقائق لا أكثر… ولكنها تغيّر كل شيء.
جرب أن تبدأ صباحك بآية، وأن تُغلق عينيك على آية.
أن تقرأ “يس” بدل أن تتفقد إشعارات هاتفك.
أن تدخل بيتك بالمعوّذتين،
أن تجعل لسورة الكهف موعدًا أسبوعيًّا،
أن تهمس بالكوثر في العُسر،
وأن تتلو الفاتحة على وجعك قبل الدواء.
هذا ليس التزامًا… بل تنفّس.
ليس عبئًا… بل حياة.
حين أخبرتُ صديقًا عن هذا، سأل ساخرًا: “يعني صاير شيخ؟”
ضحكت، وقلت:
“لا… فقط لا أريد أن أموت جافًّا من الداخل.”
نحن لا نقرأ القرآن ليُقال عنا… بل لننجو.
ننجو من الفراغ، من هشاشة الأرواح، من خواء الأيام.
ما أصعب أن يُغسَّل جسدٌ لم يقرأ القرآن منذ شهور.
وما أقسى أن يُدفن قلبٌ لم يعرف أنيسه.
أليس القرآن هو كلام الله؟
فأيّ حياءٍ أن يُترك كلام الحبيب مُغبرًّا على رفّ،
بينما آذاننا وقلوبنا مشغولة بكل شيء… إلا به؟
دعونا لا نسجن القرآن في شهر رمضان فقط،
ولا نحصره في ختمة أو صوت قارئ أو مسجد.
القرآن ليس طقسًا موسميًا… بل مشروع حياة.
ليس زينة، بل أُنسةٌ و زاد.
علّموا أبناءكم أن يُمسكوا المصحف قبل الهاتف،
اجعلوا في بيوتكم وردًا من النور،
لا تقولوا “بدأنا” بل قولوا: “لن نتركه بعد اليوم”،
لا لأننا صالحون، بل لأننا محتاجون.
وإذا شعرت بالفتور، فتذكّر:
كل حرفٍ تقرؤه… بركة في رزقك، ونور في وجهك، وطمأنينة في صدرك، وشاهدٌ لك، لا عليك.
فلا تنتظر أن يأتيك الموت ليُقال لك:
“هذا فراقٌ بيني وبينك.”
بل كن ممن يُقال لهم:
“لقد جئت على موعدٍ مع النور.”
افتح المصحف الآن…
لا تخشَ البداية.
فالقرآن لا يُعاتب من أقبل،
بل يحتضنه… كأنّه كان ينتظره منذ عمر.