لُقمة تُقرّبك… ونومة تُبعدك

عماد آل عبيدان
لم تكن تلك الوصايا العابرة التي تناقلها الناس من أفواه الجدّات، ثم تبخّرت في زوايا الزمن، إلا كنوزًا صغيرة تُصاغ بلهجة بسيطة، وتُحفظ في قلوب الحكماء لا دفاتر المثقفين.
نام في بيت أختك ولا تاكل عندها
وكل في بيت أخوك ولا تنام عنده
وصيّة شعبية تبدو ساخرة في ظاهرها، ولكنها في عمقها رسالة دقيقة تُعبّر عن فهمٍ بالغٍ لطبيعة العلاقات وحدودها، وتكشف بطريقة فكاهية عن تعقيدات إنسانية لا تُقال، ولكنها تُحسّ وتُثقل الأرواح إذا لم تُدرَك.
في بيتِ الأخ، اللقمة لا تُثقل المائدة، ولكنها قد تُوقِظ الحسابات النائمة في زوايا العلاقة.
تأكل عنده دون أن يُبدي ضيقًا، ولكن المواقف القديمة تتكئ على الملعقة دون استئذان:
من يُنفق؟
من يُبادر؟
من يتذكّر، ومن يتناسى؟
فالطعام، وإن بدا سخيًّا، قد يكون مشحونًا بصمتٍ ثقيل، لأن الأخ لا ينسى تفاصيل الأمس بسهولة.
وفي كل لقمة، قد يُستَحضر رصيدك في دفترٍ لا يُكتَب، ولكنه حاضر عند كل مناسبة.
أما في بيت الأخت، فالمعادلة مقلوبة.
تنام في بيتها، فتُوسّع لك صدرها قبل المكان، وتُعدّ وسادتك كما لو كنت ابنها، لا زائرًا.
هي لا تُحرجها الإقامة، بل تُسعدها، وتخفي تعبها كي لا تراه.
ولكن اللقمة… تلك هي ما يُثقلها، لا بيدها، بل بما خلف يدها.
ففي بيت الزوج، المطبخ ليس ساحة قرارٍ كامل، والمصروف مقسوم، والتفاصيل الدقيقة تُراقب دون أن تُقال.
تُقدّم ما عندها، ولكن في داخلها حسابات الحياء، وحذر الأنثى التي لا تريد أن تُشعر زوجها بثقلٍ غير مقصود، ولا أن تُظهر حاجتها لصرفٍ لم يُحسب.
فـالمحبة عندها واسعة.. ولكن الطبق صغير.
نحن في زمنٍ أصبحت العلاقات فيه تحتاج إلى صياغة أكثر رُقيًّا.
لا لأنّ الحبّ نقص، بل لأنّ الحياء أصبح عملةً نادرة، والتقدير صار يُفهم ضمن شروط.
كبرنا… ولم نعد نَزُور كما كنّا في صغرنا.
صرنا نحمل معنا ساعاتنا، ومشاغلنا، وهدايانا أحيانًا، ولكننا ننسى أن أهمّ ما نحمله هو وزننا الشعوري على قلوبهم.
وهنا جوهر الوصية:
كُن خفيفًا كالعطر… لا ثقيلًا كطبق اليوم التالي، ولا مُقيمًا كأثاثٍ لا يُنقَل.
قصةٌ واقعية سمعْتها من أحدهم…
زار أخاه فجأة، وبقي ليومين كاملين.
في اليوم الثالث، قال ابن أخيه الصغير ببراءة:
“بابا يقول إنك ماثقلت، بس طولّت!”
ضحك الزائر مجاملةً… ولكنه غادر صباحًا دون إفطار، وغابت تلك الزيارة من تقويم العلاقات بعد تلك الجملة العابرة.
وفي قصة أخرى، زارت أختٌ أخاها، وأحضرت معها وجبة تكفي عشرة، ثم غادرت قبل المغرب، مخلفةً في البيت ضوءًا لطيفًا و ابتسامة امتدت لأيام.
هكذا تكون العلاقات: لا تُقاس بالمدة، بل بالأثر.
ولا تُوزَن بالكيلو، بل بالشعور.
وصيّة الأوّلين لم تكن عن الطعام والنوم…
بل عن الاتزان في المودّة، وعن حدودِ “ الحبّ الذكي”، ذلك الذي يعرف متى يقترب… ومتى يكتفي بالسلام.
فلا تُثقل العلاقة بلقمة تُحسب، ولا تُربك الودّ بنومةٍ قد تفتح أبواب الحرج.
وازن بين دفء الأخوّة… وحدود المكان.
واجعل زيارتك مثل نسيم المساء: تنعش الأرواح، ولا تُزاحم الجدران.