لعبة الفهد – الحلقة الرابعة عشر: لسنا ندًا لهم

ابراهيم الرمضان
أخيرًا، استطاع النقيب مدرك الوصول إلى (الفهد) كما يسميه، وجهًا لوجه، بعد تصميمه على متابعته ورقابته اللصيقة. كان متأكدًا أن فهد لن يختفي بسهولة، فهو لم يكن مجرد شخص عادي، بل أنموذجًا فريدًا من نوعه.
حتى عندما وصله تقرير المراقب عن اختفاء فهد وسط النيران، واعتقاده بأنه قد قُتِل، لم يقتنع النقيب مدرك لحظة واحدة بهذه الفرضية. بل على العكس، كان واثقًا أن شخصًا مثل (الفهد) لا يموت بهذه السهولة!
يصر على تسميته بالفهد وليس فهدًا، ليس فقط لمجرد التلاعب بالأسماء، بل لأنه يرى فيه صفات الفهد الحقيقية:
● سريع الحركة، قادر على اتخاذ قرارات لحظية خلال أجزاء من الثانية.
● مراوغ بالفطرة، يختفي في اللحظة المناسبة ليظهر من حيث لا يتوقعه أحد.
● ذكي تكتيكيًا، يعتمد على التخفي والمكر بدلًا من المواجهة المباشرة.
● يتعلم من تجاربه بسرعة مذهلة، فلا يقع في نفس الفخ مرتين.
النقيب مدرك لم يواجه مجرد شخص عبثي أو متمرد على القانون… بل كان أمام صياد يعرف كيف يقتنص فرصه بدقة، نادرون هم الأشخاص بهذه المهارات.
النقيب مدرك، وهو يرمق فهد بنظرة صارمة، قبل أن يبدأ حديثه بنبرة جادة:
– حسنًا أيها الفهد، لنتحدث بصراحة … الفوضى التي قمتَ بها في استهداف أبي مشاري بلغت حدًّا لا يمكن السكوت عليه. نعم، أنا لا أنكر أن أبا مشاري رجل فاسد، وعليه الكثير من الشبهات، ولكن هذا لا يعطيك الحق في أن تحوّل الأمر إلى حرب شوارع وكأننا في غابة لا يحكمها قانون!
ثم أضاف، وهو يلوّح بيده مستنكرًا:
– والأغرب من ذلك، كيف حصلت على كل هذه الثقة المطلقة من الناس؟! وكأن الشرطة والأمن لا وجود لهما في هذه البلاد!
قبل أن يفتح فهد فمه للرد، سبقه أبو موسى قائلاً بلهجة حادة:
– لأننا ببساطة… أصبحنا نثق باللصوص أكثر من المسؤولين!
تجمد النقيب مدرك في مكانه، وحدّق في أبي موسى بذهول، قبل أن يتغير وجهه إلى الغضب:
– هذا كلام خطير جدًا… ما الذي تعنيه بذلك؟!
أبو موسى، وهو يتقدم خطوة للأمام، وصوته يحمل مزيجًا من الغضب والمرارة:
– أعني أن الناس قد ذاقوا الويلات من أمثال أبي مشاري، ورغم كل ذلك، لم يتحرك أحد منكم لإيقافه! بيوتٌ دُمِّرت، وأعناقٌ قُيِّدت بقيود لا تُكسر، وحقوقٌ نُهِبت أمام أعين الجميع، ولم يحرك المسؤولون ساكنًا.
أردف بنبرة ساخرة مملوءة بالحسرة:
– والأسوأ… حتى لو تقدم شخص بشكوى، فإنه لا يفعل شيئًا سوى أن يجلب لنفسه المزيد من المصائب! سيُستهدف، وسيتعرض للانتقام، لأنه تجرأ على مواجهة شخص محمي بحصانة غير طبيعية.
حاول النقيب مدرك الرد، ولكن أبا موسى لم يمنحه الفرصة، بل أشار إليه بإصبعه قائلًا بحدة:
– لا تحاول إنكار ذلك، وأنت تعلم جيدًا أنه صحيح! وأكبر دليل؟ أخبرني، لماذا رجال الدفاع المدني عندما مسحوا المبنى لم يدخلوا القبو؟!
تراجع النقيب مدرك قليلًا، ثم قال ببطء، وكأنه يحاول أن يجد مخرجًا منطقيًا:
– حسنًا… ألا يمكن أنهم قدّروا أن الوضع كان خطيرًا للغاية؟
قاطعه أبو موسى، وهو يلوّح بيده بعصبية:
– هراء!! إنهم حتى لم يحاولوا! وإذا كان الوضع فعلًا خطيرًا كما تقول، فكيف تمكّنا نحن، بجهود ارتجالية، من فعل ما عجزوا عنه؟
مال إلى الأمام قليلًا، نظر إلى النقيب مدرك مباشرةً، ثم قال بحدة:
– تريد الحقيقة؟ لأنهم كانوا يعرفون جيدًا أن نظام الإطفاء في الفندق مليء بالعيوب والأخطاء القاتلة! ولو دخلوا فعلًا، وأعدّوا تقريرًا شفافًا عن أسباب الحريق، ثم راجعوا العقود المبرمة مع المقاولين الفاسدين، لاكتشفوا مصائب ستفضح أبا مشاري ومن معه وتكشف فساده أمام الجميع!
صمت للحظة، ثم أكمل، وهو يحدق في النقيب مدرك مباشرة، بنبرة لم تخفِ نبرة الاتهام:
– من يدري؟ ربما كان الفندق مؤمنًا عليه، وأبو مشاري يطمع بتعويض ضخم من شركة التأمين!! لقد تم التلاعب بكل شيء، والتستر عليه… والأمن، للأسف، لم يكن جزءًا من الحل، بل كان جزءًا من المشكلة!!
النقيب مدرك، وهو يعقد ذراعيه متحفزًا، ويرد على أبي موسى بنبرة حازمة:
– حسنًا، هذا كلّه مجرد تحليل واستنتاجات! لا يوجد دليل ملموس على أن هناك تسترًا رسميًا على فساد أبي مشاري، ولا شيء يثبت أن المسؤولين امتنعوا عن محاسبته عمدًا. ما يهمني المعطيات الحقيقية، وليس الافتراضات!
قبل أن يتمكن أحد من الرد، سمع الجميع صوتًا خافتًا ولكنه واضحٌ كالسهم يخترق الأجواء المشحونة:
– لستم نِدًّا لهم.
التفت الجميع إلى مصدر الصوت… لم يكن سوى علي، الذي كان واقفًا بالقرب من والده، عاقدًا ذراعيه، وعيناه تحملان نظرة جادة أعمق من سنّه.
ساد صمت ثقيل في الغرفة… وكأن ما قاله علي كان حقيقةً يعرفها الجميع، ولكن لم يجرؤ أحد على قولها صراحة.
ولكن النقيب مدرك لم يتقبل هذا بسهولة، فرفع حاجبه قائلًا بتحفظ:
– نِدٌّ ضد من؟!
هنا، تقدم أبو فهد خطوة إلى الأمام، ونظر إلى النقيب مدرك نظرة مباشرة، قبل أن يقول بصوت هادئ ولكنه ذو مغزى:
– نحن دائمًا نرمي المسؤولية على أنفسنا… وكأننا نبرر خوفنا من الآخرين! وجدنا أن جلد الذات هو الحل الأسهل بدلًا من المواجهة!
التفت إلى ابنه علي، وربت على كتفه بخفة، ثم تابع:
– علي هذا… كان يتعرض لتنمّر شديد في مدرسته، وفي حياته العامة… وكنا نرمي المسؤولية على فهد!
استمع النقيب مدرك بصمت وهو يراقب تغيّر تعابير وجه أبي فهد، الذي ازدادت جديته وهو يتابع:
– وصل الأمر إلى أن ابن المدير نفسه كان يتطاول على والدته المرحومة… لم يكن مجرد تنمر عادي، بل كان يتجرأ على الإساءة إلى امرأة متوفاة بكل وقاحة.
صمت للحظة، ثم أكمل بصوت أثقل، وكأن الكلمات تخرج بصعوبة:
– ولم يكن ذلك كافيًا… حتى أحد معلميه فعل الشيء ذاته! أساء إلى والدته بشكل مريع، وأمام جميع الطلاب، ولم يحدث له شيء… لا مساءلة، لا محاسبة، لا حتى لفت نظر!
هزّ رأسه بيأس، وقال بمرارة:
– وكالعادة، كان العذر الجاهز الذي يردده الجميع… “لسنا نِدًّا لهم”.
ارتفع حاجب النقيب مدرك، وهو يحدق في أبي فهد وعلي… بدا واضحًا أنه لم يكن يتوقع أن تأخذ المحادثة هذا المنحى العميق.
فهد، الذي كان يستمع بصمت طوال هذه المدة، نهض أخيرًا.
وقف على قدميه بتثاقل، مستندًا إلى الجدار، ثم عقد ذراعيه، ورمق النقيب مدرك بنظرة مباشرة:
– النقيب مدرك… أنت تصر على أن حديثنا مجرد تحليل وافتراضات؟ حسنًا، دعني أخبرك بما هو ليس تحليلًا… وليس افتراضًا… بل حقيقة واضحة كالشمس.
خطى خطوة للأمام، وكأن كلماته نفسها تثقل الغرفة بمزيد من الضغط:
– كل قضية يتم رفعها ضد أبي مشاري تتوقف فجأة دون تفسير، وكأنها لم تكن! هذه ليست فرضيات… بل وقائع حدثت أمام الجميع!
رفع حاجبه، ثم تابع بصوت أكثر حدة:
– إذا كان كلامنا مجرد استنتاجات… أخبرني أنت، ماذا حدث لقضية تمويل الجماعات الإرهابية التي تم رفعها ضده؟
التفت إلى الجميع، ثم لوح بيديه وكأنه يعرض أمامهم مشهدًا واضحًا:
– اختفت القضية فجأة! كأنها لم تكن موجودة أصلًا، لم نسمع عن جلسات، لم نرَ تحقيقات، لم يكن هناك حتى بيان رسمي يبرئه!
نظر مباشرة إلى النقيب مدرك، وعيناه تلمعان بنظرة تحدٍ هادئة:
– وأيضًا… ماذا عن قضايا الفساد المالي؟ تم تقديم أدلة دامغة، وتم تجميد حساباته البنكية، ثم فجأة… تم رفع الحظر عن حساباته، وكأن شيئًا لم يكن!
ضحك ضحكة قصيرة مليئة بالمرارة، ثم أضاف:
– ليس هذا فحسب… بل تمت محاسبة الأشخاص الذين قاموا بتجميد أمواله! تم تحميلهم المسؤولية، وكأنهم ارتكبوا جريمة!
توقف لبرهة، ثم ألقى كلماته الأخيرة بقوة، وكأنه يوجه الضربة القاضية:
– مساكين هؤلاء الذين حاولوا تطبيق القانون على أبي مشاري… لأنهم ببساطة… “ليسوا ندًّا له!!”
ساد الصمت في الغرفة، كان وقع الكلمات ثقيلًا، لا مجال للإنكار. حتى النقيب مدرك لم يتمكن من الرد فورًا، فقط نظر إلى فهد بعينين ضيقتين، وكأنه يفكر في كل كلمة قالها.
النقيب مدرك، وهو يتحدث بنبرة جادة، بعد أن أخذ نفسًا عميقًا:
– حسنًا، لأكن واضحًا معكم… أنا وفريقي كانت مهمتنا الحقيقية ليست تعقبك، بل مراقبة أبي مشاري.
توقف لحظة ليقيس ردود الفعل، ثم تابع، وهو يرفع حاجبه:
– لقد وجهت فريقي للتركيز على أعدائه، لأنهم أكثر من يعرفون ثغراته ونقاط ضعفه… أما أنت؟ لم تكن على رادارنا حتى انتشر اسمك كالنار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بفضل الحملات التي تدعم أبا مشاري… وفضل الفوضى الكبيرة التي صنعتها لاستهداف إمبراطوريته.
نظر مباشرة إلى فهد، وأضاف بحدة:
– ورغم أن هدفك قد يكون نبيلًا، ولكنه يبقى خروجًا على القانون، مهما حاولتم تلميعه أو تبريره.
ساد صمت ثقيل، ثم أضاف النقيب مدرك ببطء، وكأنه يزن كلماته بعناية:
– ومع ذلك… ربما لا يحق لي محاسبتكم على كل شيء، طالما أن القانون نفسه لم يتم تفعيله لحمايتكم.
ألقى نظرة جانبية على الجميع، ثم ختم بصوت أقل حدة، ةلكنه يحمل معنى أعمق:
– القانون، كما يفترض، وُجد لتنظيم وصيانة المصلحة العامة للوطن والمواطنين… لا لحماية المنتفعين منه.
النقيب مدرك، وهو ينظر إلى فهد بتمعن، بعد أن أعاد ترتيب أوراقه في ذهنه:
– وأيضًا…! طلبت من أحد عناصر فريقي مراجعة سجلك السابق. كنا نعلم أنك قضيت وقتًا في السجن، ولكن عندما اطلعنا على التهمة الرسمية… (السرقة)، لاحظنا شيئًا غريبًا.
توقف للحظة، ثم أردف بلهجة مدروسة:
– حتى لو كانت التهمة صحيحة، لماذا عشر سنوات؟!
نظر إلى فهد مباشرة، ثم واصل بشك واضح:
– الرقم كبير جدًا بالنسبة لطبيعة السرقة المذكورة في الحكم. الجريمة لا تستحق أكثر من سنة، وربما ثلاث سنوات في أسوأ الأحوال. كان الحكم غير منطقي… وجعلني أشك أن هناك دوافع أخرى وراءه!
فهد، الذي كان يستمع بهدوء، ابتسم بخفة، ثم قال بسخرية واضحة:
– حسنًا، وها أنا أمامك اليوم، بجريمة أعظم بكثير من السرقة… لقد حرقت فندقًا عن بكرة أبيه، دمرت واحدة من أكبر إمبراطوريات الفساد، جعلت أبا مشاري ينهار تمامًا! ماذا تراك ستفعل الآن؟ هل ستأمر باعتقالي؟
النقيب مدرك، لم يبتلع الطُعم بسهولة، بل ردّ الابتسامة بفطنة، وهو يعقد ذراعيه:
– ربما… ولكن هناك مشكلة صغيرة، أيها “الفهد”.
رفع حاجبه، وأكمل ببطء، وكأنه يسدد لكمة غير مرئية:
– هذا إذا طلبتُ ذلك رسميًا من الدولة الإفريقية البعيدة التي يُفترض أنك هناك الآن، تتأرجح بين أشجار الموز!
ضحك بخفة، وهز رأسه وهو يردف:
– لقد لعبتها بذكاء… على الورق، أنت لست هنا أصلًا.
النقيب مدرك، بعد أن استعاد جديته، نطق بنبرة متزنة:
– أتفهم تمامًا موقفك السلبي من القوانين والأنظمة عندما تجدها ضدك، ولكن عليك أن تدرك شيئًا، أيها الفهد… الإخلال بالقانون خطر، مهما كانت أهدافك نبيلة. صيانة النظام والقانون يجب أن تكون لمصلحة الجميع، وليس لمن يملك السلطة فقط.
توقف لحظة، قبل أن يضيف بصوت أكثر صرامة:
– نعم، هناك أخطاء، بل أخطاء جسيمة، لا أحد ينكر ذلك، ولكن الحل لم يكن القفز فوقها بأخطاء أكبر! كان الأصح هو السعي لتصحيحها… لا نسفها بهذه الطريقة.
نظر مباشرة إلى فهد، ثم قال بوضوح:
– لهذا السبب… لن أقف في طريقك في مواجهة أبي مشاري، ولكنه ليس وحده. كما أن له ظهرًا يحميه ويستند عليه، وهؤلاء هم من ينبغي مكافحتهم أيضًا… أنتم أيضًا ستحتاجون إلى غطاء يحميكم ويدعمكم.
التفت إلى بقية الحاضرين، متفحصًا وجوههم، ثم تابع بصوت هادئ ولكنه حاسم:
– أتفهم خوفكم على هذا الفهد، وخشيتكم من أننا نتعقبه لنعتقله… أنتم مخطئون! حتى فريقي نفسه فهمني خطأً… لم يكن هدفي أبدًا اعتقاله، بل على العكس تمامًا.
رفع حاجبه قليلًا وهو ينقل نظره بين الجميع، ثم أكمل ببطء مدروس:
– أنا أراه شخصًا نحتاجه.
ثم اتجه إلى فهد مجددًا، وختم حديثه بنبرة تحمل معنىً أبعد مما يقول:
– من الآن فصاعدًا، عندما تدبر شيئًا جديدًا لاستهداف أبي مشاري، يجب أن يكون ذلك بالتنسيق معي… فالأمر لا يتعلق به وحده. هو مجرد جزء من شبكة فساد أكبر بكثير، وما نحتاجه الآن… هو إنهاؤها بالكامل.
يلتفت النقيب مدرك إلى بقية أفراد عصابة فهد، ثم قال بنبرة صارمة لا تقبل الجدل:
– وبمجرد أن ننتهي من هذه المهمة، يجب تفكيك هذه الخلية فورًا! الغطاء الذي سأوفره لكم سينتهي بانتهاء الغرض منه، وإلا فسيصبح عملكم خارجًا عن السيطرة، وسيتم اعتباره نشاط إجرامي يُخلّ بالأمن العام… هل هذا واضح؟
صمت الجميع، ولكن ملامحهم لم تكن معترضة. على العكس، بدا وكأن الجميع مستعدون للقبول بهذا الاتفاق أخيرًا، فهم يدركون أنهم لم يسعوا يومًا ليكونوا خارجين عن القانون، بل كانوا مجرد رد فعل لظلم مستمر.
بعد أن تأكد النقيب مدرك من موافقتهم الضمنية، عاد بنظره إلى فهد، الذي ظل ينظر إليه بتركيز، لاستيعاب كل الاحتمالات التي قد تترتب على هذا الاتفاق.
النقيب مدرك، بنبرة أكثر هدوءًا، ولكن لا تخلو من الجدية:
– أما أنت… لا أدري كيف استطعت التسلل إلى البلاد بهذه الحنكة، ولكن هذا الوضع يجب أن يُصحّح. ينبغي أن تصبح خارج البلاد مجددًا، ثم تعود إليها بشكل نظامي، فلا يمكن أن تظل معلّقًا بين الوجود وعدم الوجود!
توقف قليلًا، قبل أن يضيف بنبرة تحمل شيئًا من الالتزام الشخصي:
– وأعدك بأنني سأبذل جهدي ليكون حالك أفضل مما هو عليه الآن.
وأخيرًا، بدأ الجميع بالخروج من المكان، بعد هذا الاجتماع التوافقي الذي لم يكن يتوقعه أحد.
وكادت ناهد أن تغادر المكان برفقة والدها، قبل أن يستوقفها النقيب مدرك، الذي بدا وكأنه أدرك شيئًا لم يفكر فيه أحد. نظر إليها مباشرة وسألها:
– ألم تكوني مع فهد في القبو؟
توقفت ناهد للحظة، ثم أومأت برأسها:
– بلى، كنت معه حتى وصولكم.
أطلق مدرك زفرة قصيرة، ثم نظر إلى الجميع بجدية وكأنه يطلب منهم التفكير معه:
– أبو مشاري يعتقد أن النيران التهمت فهد وناهد. بالنسبة له، هما في عداد الموتى.
ثم يلتفت إلى ناهد مخاطبًا لها:
– لكن إذا ظهرتِ علنًا، خصوصًا بعد أن اكتشف أنكِ كنتِ تسربين أخباره ومعلوماته السرية، فأنتِ تعلمين ما قد يفعله، أليس كذلك؟
تجمدت ناهد في مكانها، وكأن عقلها بدأ بإعادة ترتيب الأمور. لم تكن قد فكرت في هذه الزاوية، ولكنها كانت تعلم جيدًا أن أبو مشاري لا ينسى، ولا يغفر.
أكمل مدرك بنبرة حازمة:
– لهذا، لا يمكنكِ العودة إلى حياتك الطبيعية الآن، يجب أن يتم تطبيق نفس الإجراءات التي نُفذت مع الفهد. ببساطة… يجب أن تبقي في الظل.
نظر عوض إلى ابنته، كان قلبه يرفض الفكرة، ولكنه لم يكن لينكر حقيقة كلام النقيب مدرك. أخيرًا، تنهد ببطء، ثم قال بصوت هادئ:
– طالما أن هذا يضمن سلامتها، فلا مانع عندي… على الأقل يمكنني الاطمئنان عليها بين فترة وأخرى، وبمكان بعيد عن ذاك الطاغية.
رغم ثقل القرار، شعرت ناهد أنها لم تعد وحدها، على الأقل هذه المرة. لم تكن مجرد “عين” داخل قفص أبي مشاري، بل أصبحت جزءًا من شيء أكبر… شيء لم تتخيل يومًا أنها ستكون جزءًا منه.
ظل فهد في مكانه للحظات، يراقب الجميع وهم يخرجون واحدًا تلو الآخر، قبل أن يلقي نظرة أخيرة على النقيب مدرك، شعر بعيني فهد عليه، فالتفت نحوه. كان هناك شيء في هذه النظرة المتبادلة، شيء لم يكن بحاجة إلى كلمات. ربما كان هذا نوعًا من الاعتراف الضمني بين الطرفين، بأنهما رغم كل شيء، قد أصبحا أكثر تفهمًا لبعضهما البعض مما كانا يظنان.
التفت فهد أخيرًا، وهمّ بالخروج مع مجموعته، الذين سيتبعون نفس الإجراءات السابقة التي ستُطبق أيضًا على ناهد.
حينها، لاحظ أبو فهد شيئًا لم يفوّته على نفسه، اقترب من ابنه لينظر إليه بابتسامة، تلك الابتسامة التي جعلت فهد يضيّق عينيه بريبة، ثم سأله بلهجة مستفهمة:
– ما الذي يثير سعادتك فجأة؟
أجاب أبو فهد، وهو يربّت على كتف ابنه بخفة:
– الجبهة الثالثة باتت أقرب منك!
رفع فهد حاجبًا باستغراب، وردّ بسخرية:
– أي جبهة هذه؟ ألا يكفيني ما لدي بالفعل؟
ضحك أبو فهد بصوت خافت، ثم رد مقلدًا نبرة فهد الساخرة:
– (يا أبي، لا أريد أن أفتح لنفسي جبهة ثالثة، لأني أدرك أن راداراتها ستكون أشد فتكًا بكثير!)
اتسعت عينا فهد فورًا وهو يسترجع الحوار الذي دار بينه وبين والده سابقًا حول فكرة الزواج، وكيف أنه لا يريد أن يضيف لنفسه جبهة جديدة وسط كل هذه الفوضى! أدرك فورًا إلى أين يريد والده الوصول، وزاد ذلك من غضبه، ليتمتم وهو يشيح بوجهه بعيدًا:
– رائع! لم يكن ينقصني إلا هذا! هل عدنا لمشروع الحضانة مجددًا؟!
ولكن أبا فهد لم يتوقف، بل أكمل ضاحكًا وهو يشير برأسه ناحية ناهد، التي كانت تقف غير بعيدة عنهما، غافلة تمامًا عن الحوار الجاري:
– ألم تخبرني من قبل أنك لا تريد فتح هذه الجبهة؟ حسنًا، يبدو أن الجبهة تقرر أن تقتحم ميدانك رغمًا عنكما!
زفر فهد بضيق وهو يمرر يده على وجهه وكأنه يحاول جمع أعصابه، قبل أن يرمي والده بنظرة جانبية قائلًا بسخرية:
– أتعلم يا أبي؟ لو لم أكن مرهقًا جدًا الآن، لكنت أجبتك بما تستحق!
ولكن أبا فهد، بدّل نبرته إلى الجدية هذه المرة، ونظر إليه مباشرةً قائلًا بهدوء:
– على كلٍ، لقد رأت الفتاة من الضيم ما رأته الفترة الماضية، إضافة إلى ما عانته في السنوات الماضية، وربما تدرك بعضها. لذلك، احرص على أن تكون أكثر ودًّا معها… لا أحد يدري ماذا ستواجه في الأيام المقبلة.
نظر فهد إلى والده للحظة، وكأنه يحاول استيعاب كلماته، ولكنه لم يُعلِّق، بل أطلق تنهيدة ثقيلة، قبل أن يستدير ليغادر.
وهكذا، أُسدل الستار على هذه المرحلة… ولكن الجميع كانوا يعلمون أن هناك فصلًا آخر قادم، وأن اللعبة ما تزال بعيدة عن نهايتها.