هل كان الصلح هزيمة أم وعيًا نبويًا

أحمد الطويل
مقدمة:
ليس كل من يصمت عاجزًا، ولا كل من يُصالح خائفًا. أحيانًا، يتخذ القائد الخطوة التي يرفضها الجمهور، لأنها الوحيدة القادرة على إنقاذ الجوهر من أن تبتلعه نار الفتنة. وهكذا، وقف الإمام الحسن بن علي عليه السلام في نقطة حرجة من التاريخ، واتخذ قرارًا لا يفهمه إلا من يرى ببصيرة النبوة: الصلح. ولكن، هل كان هذا الصلح تنازلًا؟ وهل يمكن أن نفهم كربلاء دون أن نمر من بوابة الحسن؟
في ظل الفتنة الكبرى
بعد استشهاد أمير المؤمنين، وجد الإمام الحسن نفسه يقود أمة مُرهقة، طُعنت من داخلها قبل أن تُواجه عدوها. الجماعة التي بايعته كانت ممزقة الولاء، مترددة العزم، لا تصمد في الميدان، ولا تلتف حول القيادة. فكيف يمكن لقائد أن يقود أمة لم تحسم أمرها؟ لقد قرأ الإمام المشهد بعين المُصلح لا بعين المنتقم، فقرر أن يُعيد ترتيب المعركة قبل أن تُجهز على البقية الباقية من روح الأمة.
صلحٌ بحجم الرسالة
حين دخل الإمام الحسن ساحة التفاوض، لم يكن ذلك هروبًا من المواجهة، بل خطوة محسوبة لحفظ جوهر الدعوة. من أبرز بنود الصلح التي فرضها عليه السلام: ألا يُعيّن الحاكم خليفة من بعده إلا بعد مشاورة الإمام الحسن وموافقته، مع ضمان الحريات، ووقف الملاحقة لشيعة أهل البيت. لم تكن هذه شروط الضعفاء، بل ميثاقًا يحفظ الكرامة
والأهم: لم يكن الإمام هو من سعى للصلح، بل كان الطرف الآخر هو من بادر بطلب إيقاف الحرب، فاشترط الإمام شروطًا صارمة تفضح الخلل وتؤسس لوعيٍ قادم. لقد رسم الإمام بتوقيعه على الصلح، خارطة طريق تؤسس للشرعية القائمة على الرضا الشعبي لا على الغلبة.
صلة وثيقة بصلح النبي محمد ﷺ
كما قبل النبي محمد ﷺ صلح الحديبية رغم ظاهره القاسي، ليفتح من خلاله باب الفتح العظيم، كذلك فعل الإمام الحسن عليه السلام. لم تكن الخطوة تنازلًا عن المبدأ، بل وفاءً لحكمة التدرج والبناء. كان الهدف واحدًا: عدم التفريط بجوهر الإسلام مقابل نصر لحظي أو دماء تُراق في لحظة غفلة الأمة.
رؤية إبراهيمية
لم يكن الإمام الحسن أول من اختار أن يُهادن بل أن يتحرك بحكمة كي يحفظ الرسالة. قبله فعلها نبي الله إبراهيم عليه السلام حين واجه الطغيان بالحجة لا بالصدام. حين هدّده النمرود وادّعى الألوهية، لم يبادره بالقتال، بل واجهه بالمنطق ثم اعتزل القوم والمعبد ليُؤسس لرسالة التوحيد بعيدًا عن صخب المواجهة. الإمام الحسن سار على هذا النهج: ترك الميدان لا لأنه خسره، بل لأنه قرأ المستقبل، فبنى لأمته عِصمة من داخل التاريخ.
التمهيد الهادئ لانفجار الوعي
لم يكن صلح الإمام الحسن عليه السلام نهاية مشروع المواجهة، بل كان تحويلًا ذكيًا لمسارها. عمل الإمام على إعادة تشكيله بهدوء، وعلى مدى عشر سنوات من بعد الصلح، بنى الإمام الوعي الشعبي، وكشف زيف السلطة، وفضح الازدواج بين الشعار والممارسة، حتى أصبحت كربلاء ممكنة، لا فقط كفعل احتجاج، بل كموقف له جذوره وشرعيته في الذاكرة الجماعية.
لقد كان الإمام الحسن هو من كسر قشرة الشرعية المزيفة للطرف الآخر دون أن يريق دمًا، وفرض على الأمة سؤالًا مؤجلًا: إذا كان الصلح مشروطًا بالعدل، فلماذا انتُهكت تلك الشروط؟ وإذا كان الحسن قد سكت، فلماذا الحسين صرخ؟ الجواب في جوهره واحد: الإمام الحسن أعد الأرض، والإمام الحسين زرع الدم الذي أنبت الصحوة.
الصلح لم يكن انسحابًا، بل كان إعلان مرحلة “هدم بالصبر”، حتى حان وقت “البناء بالدم”. وبين الصبر والثورة، خط واحد اسمه: الرؤية البعيدة لأهل البيت عليهم السلام.
مدرسة في فن الحياة: كيف نعيش صلح الحسن اليوم؟
في زمن الانفعالات والتوترات، نحن أحوج ما نكون إلى نهج الإمام الحسن. قراره يعلمنا أن القوة ليست في المواجهة دائمًا، بل في امتلاك البديل الحكيم. يعلمنا أن التفاوض لا يُنافي الكرامة، بل قد يكون أنبل أشكالها. في بيوتنا، في أعمالنا، في نقاشاتنا اليومية، في إدارة الاختلافات نحتاج إلى صبره، وبعد نظره، واتزانه. نحتاج أن نختار اللحظة المناسبة للصمت، والحكمة المناسبة للكلام، والحدّ الفاصل بين الكرامة والعناد. فالحياة لا تُدار بالسيوف، بل بالبصيرة والصبر والطاقة الأخلاقية التي تربّي أمة لا تنتقم بل تنهض.
الخلاصة:
في لحظةٍ كانت الأمة فيها على شفا التمزق، لم يختر الإمام الحسن عليه السلام السيف، بل فتح الطريق أمام وعيٍ لم يحن أوانه بعد. لم يصالح ضعفًا، بل فاوض بثقة، ليعلّم الأجيال أن الشجاعة لا تعني الصدام دائمًا، وأن النصر الحقيقي يُبنى على هدوء القائد لا على صخب المعركة.
لقد كان صلحه عليه السلام أرضًا ممهدة لكربلاء، خطوة هادئة فجّرت فيما بعد صرخة الحسين في وجه الطغيان. فالحسن كشف الزيف، والحسين مزّق القناع. فعلينا ألا نغفل عن الصلح الذي مهّد لها.
لكن الرسالة لا تقف عند التاريخ، بل تمتد إلى حياتنا اليومية؛ فحنكة الإمام الحسن ليست فقط قصة نُروى، بل منهاج نسير عليه: أن نُحسن الاختيار وقت الخلاف، وأن لا ننساق وراء الانفعال، وأن نُدير خلافاتنا ببصيرة، لا بغلبة. هكذا نُصبح طلابًا حقيقيين في مدرسة الإمام الحسن، في كل زمن.
اللهم ارزقنا بصيرة الإمام الحسن، وحكمة الأنبياء في زمن الفتن، واجعلنا من الداعين إلى السلام بالوعي، ومن الممهّدين لدرب الحق بثباتٍ لا يلين.