لعبة الفهد – الحلقة الخامسة عشر: ما هو سر القبو؟

إبراهيم الرمضان
كان الشيخ أبو مشاري جالسًا في مكتبه الخاص داخل قصره الفخم، جبهته متجهمة وعيناه تراقبان الساعة، ينتظر بفارغ الصبر عودة حارسه الشخصي، ليوافيه بآخر المستجدات حول التحقيقات في أسباب الحريق.
كان أبو مشاري رافضًا بشدة تدخل الأمن العام، بحجة أن الشركة الأمنية الخاصة به ستتولى التحقيق، مبررًا ذلك بأن الوضع لا يستدعي “هذا القدر من التهويل”، ولكن هذا الأمر لم يرقَ للمسؤولين في الأمن العام.
من وجهة نظرهم… أصبح أبو مشاري يتصرف وكأنه رئيس دولة مستقلة داخل الدولة! وكأن أي تدخل أمني في أملاكه يُعدّ انتهاكًا للسيادة! هذا التعالي والتصرف السلطوي كان مستفزًا لهم، خاصةً بعد تصاعد الشكوك حول حقيقة ما حدث داخل الفندق المحترق.
عاد الحارس الشخصي أخيرًا، متقدمًا بخطوات حذرة، وهو يحمل في يده بعض الأوراق.
أبو مشاري رفع رأسه بحدة وسأله بلهجة متوترة:
– ما الجديد؟ هل أنهى المحامي كل شيء؟
أومأ الحارس الشخصي سريعًا، وأجابه بثقة:
– نعم يا طويل العمر، بفضل جهودنا أنا والمحامي، تم تسجيل سبب الحريق رسميًا على أنه خطأ في تمديدات الغاز داخل المطبخ، والآن نطالب شركة التأمين بدفع التعويضات!
ولكن… الأمور لم تكن بهذه البساطة. توقّف الحارس لثوانٍ قبل أن يتابع بقلق:
– لكن يا طويل العمر… هناك مشكلة، شركة التأمين ترفض بشدة صرف التعويضات.
أبو مشاري ضرب المكتب بعصاه بغضب، وهتف:
– يرفضون؟! وعلى أي أساس؟!
أجاب الحارس بنبرة مترددة، وكأنه يعلم مسبقًا أن هذا الخبر لن يُعجب الشيخ:
– لديهم معلومات مؤكدة بأن المطبخ كان آخر مكان وصلته النيران، وليس العكس كما زعمنا في التقرير، لأن المطبخ يقع في الجهة الخلفية من الفندق!
هنا تغيّرت ملامح أبي مشاري، واتسعت عيناه، ولكنه أخفى ارتباكه سريعًا وهو يلوّح بيده للحارس ليكمل.
الحارس واصل حديثه بقلق أكبر:
– المشكلة الأكبر أن شركة التأمين مُصِرّة على طلب تقرير مُفصّل حول القبو، فهم يعتقدون أن الحريق بدأ من هناك!
وهنا… خرج أبو مشاري عن طوره!
ضرب المكتب بعنف وصاح غاضبًا:
– القبو؟!! قلتها مليون مرة… لن يقترب أحد من القبو! لا شركة تأمين ولا أمن عام ولا حتى إبليس نفسه!
نظر الحارس إليه بقلق، ولكنه لم يتجرأ على الاستفسار أكثر.
الشيخ أبو مشاري كان مستعدًا لخسارة قضية التعويضات بأكملها… ولكنه لن يسمح لأية جهة بالاقتراب من القبو! هناك سر كبير مدفون هناك… ولكن ما هو؟ ولماذا يخشاه أبو مشاري بهذا الشكل؟!
الحارس الشخصي يتردد للحظات، ثم يرفع عينيه إلى أبي مشاري بقلق واضح، وكأنه يوازن بين حجم الكارثة التي عليه إيصالها، وبين غضب الشيخ الذي لا يمكن التنبؤ بعواقبه.
أبو مشاري لاحظ التوتر في ملامحه، فرفع حاجبه متضجرًا، ثم قال بحدة:
– ما بالك واقفٌ هكذا كأنك ستنقل لي نبأ الحرب العالمية الثالثة؟! عيونك تقول إن هناك مصيبة أخرى! انطقها دون لفّ ودوران!
ابتلع الحارس الشخصي ريقه بصعوبة، ثم قال بتردد:
– إنها… بخصوص لطيفة.
أبو مشاري زفر بملل وهو يفرك جبينه وكأنه بدأ يضيق ذرعًا بالحديث عن زوجته:
– وماذا تريد أم مشاري هذه المرة؟!
لوّح الحارس الشخصي بيده بسرعة وهو يوضح:
– لا، ليست هي من تريد شيئًا… بل العكس تمامًا! نحن من لدينا مشكلة!
أبو مشاري أشار له بعصاه بتهديد، وقد بدأ يفقد صبره:
– تحدث بوضوح، لا تجعلني أحطم هذا المكتب فوق رأسك! أين هي؟ لماذا لم تعد؟ قل لها أن تعود فورًا، لقد طالت رحلتها أكثر مما ينبغي!
الحارس الشخصي ازدرد ريقه، ثم قال بصوت خافت:
– هذه هي المشكلة، يا طويل العمر… لا تستطيع العودة!
توقف الزمن للحظة! حدّق به أبو مشاري وكأنما استوعب للتو ما قاله، ثم مال إلى الأمام قليلًا، وصوته خرج أكثر هدوءًا، لكن هذا الهدوء كان أشد رعبًا من صراخه المعتاد:
– لا تستطيع؟! ولماذا لا تستطيع؟!
تنفس الحارس بعمق قبل أن يقول الجملة التي يدرك أنها ستشعل غضب الشيخ أكثر:
– لأنها… تورطت في قضايا مسجلة ضدها هناك.
ضاقت عينا أبي مشاري وهو يحدّق به بثبات، ثم سأل ببطء، وكأنه يريد أن يستوعب التفاصيل قبل أن ينفجر غضبه:
– أي قضايا؟! ومَن اللعين الذي تجرأ على رفع قضية ضد زوجتي؟!
هنا، نظر الحارس الشخصي إلى الأرض قبل أن يرفع عينيه مجددًا، وكلماته خرجت كالقنبلة:
– المشكلة يا طويل العمر… أن القضايا ليست من أفراد… بل من جهات رسمية! السلطات هناك تحقق معها بسبب مشاريعك التي سجّلتها باسمها!
في تلك اللحظة، تحولت ملامح أبي مشاري إلى عاصفة من الغضب، وكأن انفجارًا بركانيًا قد اندلع في وجهه! صرخ بعنف، صوته الجهوري يهز جدران القصر، وكأن الأرض نفسها تزلزلت تحت أقدام المحيطين بها!
ومن جانب آخر، في المقر السري حيث يتواجد فهد، كان الجميع يتناقشون حول آخر المعلومات التي وصلتهم عن أسرار أبي مشاري الجديدة، وخاصة تلك المعلومات الذهبية التي كشفت جانبًا آخر من فساده في الخارج.
كان واضحًا أن فهد ومجموعته قد تمكنوا أخيرًا من الوصول إلى خيوط لم يكن يتوقعها أحد، بل إنهم كانوا وراء توريط زوجته خلال رحلتها الأخيرة، حيث مرت عبر إحدى الدول كمحطة عبور، لتتفاجأ هناك باعتقالها بسبب القضايا المعلقة ضدها.
إن شبكتهم توسعت بشكل غير مسبوق، فقد انضمت إليهم عناصر جديدة عززت من قوتهم ونفوذهم. لم يكن هؤلاء سوى رجال الحراسات الأمنية الذين يعملون في منشآت أبي مشاري، والذين تحولوا من مجرد موظفين عاديين إلى عيون جديدة لفهد في عقر دار خصمه. كانت مهمتهم واضحة: جمع المعلومات الهامة ونقلها إلى مجموعة فهد، أو (خلية الفهد) كما يسميها النقيب مدرك! ليقوم فهد بدوره بالتدقيق والتحليل، ومقارنة البيانات ببعضها البعض بحثًا عن الثغرات والنقاط الحرجة. لم يكن فهد يعتمد على المعلومات الخام فقط، بل كان يتبعها بطريقته الخاصة، يربط التفاصيل ببعضها حتى يصل إلى استنتاجات لا تخطر على بال أحد.
ولكن الخطوة الأهم لم تكن في جمع المعلومات فقط، بل في كيفية استخدامها. وهنا يأتي دور النقيب مدرك، الذي أصبح شريكًا غير مباشر في هذه اللعبة. كان فهد يشاركه بما توصل إليه، بينما كان النقيب مدرك يزوّده بدوره بمعلومات رسمية لا يمكن لفهد الوصول إليها بسهولة؛ كل منهما يتحرك وفق خطته، ولكنهما في النهاية يسعيان إلى الهدف نفسه.
وحينما تتجمع الخيوط، كان القرار يتخذ بناءً على أهمية المعلومات:
• إذا كانت تشكل ضربة مباشرة لأبي مشاري، يتم إبلاغ الجهات المختصة بها لاستخدامها ضده قانونيًا.
• إذا كانت معلومات حساسة ولكن لم يحن وقت استخدامها بعد، يتم الاحتفاظ بها لوقت الحاجة.
• وإذا كانت المعلومات تفتح بابًا جديدًا قد يؤدي إلى كشف شبكة أكبر، يتم التريث والتخطيط لكيفية استغلالها بأفضل شكل ممكن.
بهذه الطريقة، لم تعد المعركة ضد أبي مشاري مجرد حرب فوضوية، بل أصبحت حربً معلومات منظمة، تُخاض بالذكاء والتخطيط بدلًا من المواجهات المباشرة.
أصبحت آخر المعلومات التي وصلت إلى فهد حول القبو تشغله أكثر من أي شيء آخر، لقد استوقفه تحفظ أبي مشاري الشديد، ورفضه القاطع لأية زيارة ميدانية له، أو حتى ذكره في أي تقرير، وكأنها منطقة محظورة تمامًا.
في البداية، كان أبو موسى يظن أن الأمر مرتبط بالعقود المشبوهة التي أبرمها مع المقاولين الفاسدين، وربما تحتوي على أدلة تدينه بشكل أكبر في ملفات الفساد، ولكن فهد بدأ يشك بأن المسألة تتجاوز ذلك بكثير. أبو مشاري فاسد علنًا، الجميع يعرف ذلك، بل هو نفسه لا يحاول إخفاء فساده أحيانًا، فلماذا إذن القبو وحده يشكّل خطًا أحمر بالنسبة له؟ إذا كان مجرد ملف فساد آخر، فلماذا يبدو كأنه مستعد لخسارة كل شيء، ولكنه لا يسمح لأحد بالاقتراب منه؟
هذه الأسئلة ظلت تدور في ذهن فهد، ولم يكن هناك سوى إجابة واحدة:
القبو يخفي شيئًا أخطر بكثير من مجرد أوراق فساد… شيء قد يكون نقطة سقوط أبي مشاري الحقيقية!
عندما وصل أبو فهد بعد الإجراءات المعقدة والمعتادة، لم يكن مفاجئًا له أن يجد فهد ورفاقه يعتذرون منه مجددًا على استدعائه بهذه الطريقة. ولكنه بدا وكأنه اعتاد على ذلك، وكأنه جزء من نمط حياته الجديد.
قبل أن يتطرق فهد إلى الموضوع الرئيس، لم يستطع أبو فهد أن يفوّت الفرصة لإلقاء تعليق ساخر، وهو ينظر حوله في المكان:
– كم مرة استدعيتموني بهذه الطريقة حتى الآن؟ أشعر أني أصبحت عضوًا شرفيًا في هذه العصابة!
ضحك فهد، وهو يرد:
– لا تقلق يا أبي، سنطبع لك بطاقة عضوية قريبًا، مع خصومات على خدمات الاستدعاء الطارئ!
أبو فهد هز رأسه مستسلمًا، ثم أضاف بابتسامة:
– يا بني، إن كنت تفكر في بناء منظمة سرية، فعلى الأقل وفر لي مقعدًا مريحًا في المرات القادمة!
ضحك الجميع، قبل أن يتخذ فهد نبرة أكثر جدية، ويشير إلى المخططات أمامهم:
– حسنًا، دعنا نترك عضويتك المزعومة جانبًا، ونتحدث عن (القبو).
استمع إليه أبو فهد باهتمام، ثم بدأ أبو فهد بمشاركة ملاحظاته الفنية التي لفتت انتباهه عندما تفحص المخططات في وقت سابق:
– أول ما لاحظته أن القبو مصمم بإحكام غير طبيعي… طريقة إنشائه، متانته، نظام تهويته… كل شيء تم بناؤه بدقة متناهية وكأنه حصن تحت الأرض! رغم ذلك، فإن الأنظمة الداخلية فيه مليئة بالأخطاء الكارثية.
توقف للحظة، وكأنه يحاول تجميع أفكاره، ثم أضاف:
– بصراحة، شعرت أن هذا القبو هو العمل النزيه الوحيد الذي تعامل معه أبو مشاري! وكأنه اضطر للتعامل مع جهة محترفة لم يكن يستطيع التلاعب بها… ولكن لماذا؟ ولماذا هذا القبو تحديدًا؟
نظر إليه فهد بتركيز، فقد كان هذا بالضبط ما أثار شكوكه… إذا كان أبو مشاري قد اضطر بالفعل لأن يمر عبر جهة نزيهة لبناء القبو، فهذا يعني أن الأمر أكبر بكثير من مجرد فساد مالي!
وضع أبو فهد المخطط جانبًا ويفرك جبينه:
– يبدو أني ركزت كثيرًا على القبو حتى بدأ عقلي يطلب قهوة… أين المطبخ؟ سأعدها بنفسي.
ولكن رد فهد جاء سريعًا، محذرًا بابتسامة جانبية:
– المطبخ؟ آه، تقصد المنطقة العسكرية المحظورة؟ لا أنصحك بمحاولة الاقتراب، فمنذ أن أصبحت ناهد هنا، احتلته بالكامل!
رفع أبو فهد حاجبه باستغراب:
– احتلته؟!
أكمل فهد وهو يلوّح بيده كأنه يرسم مشهدًا أمامه:
– نعم، احتلال كامل! لو كان الأمر بيدها، لكانت وضعت أسلاكًا شائكة، وعينت دوريات حراسة حوله. أصبح أشبه بمعمل سري للحلويات، ولم يعد لكائنٍ ذَكَرٍ الحق في الاقتراب منه إلا بتصريح رسمي!
قهقه أبو موسى من الخلف، بينما أضاف فهد بنبرة شبه جادة:
– بصراحة، لم أعد أعرف إن كانت إقامة ناهد القسرية هنا عقوبة لها أم لنا… فمنذ أن فقد أبو مشاري نفوذه عليها، قررت تعويض سنوات العمل القسري لديه، بتحويل هذا المكان إلى مشروعها الخاص!
ابتسم أبو فهد وهو يهز رأسه بإعجاب، ثم سأل بفضول:
– وماذا عن دراستها؟ هل تركتها تمامًا؟
أجابه فهد وهو يشير إلى أم موسى، التي كانت تجلس غير بعيد عنهم:
– الحل جاء من هنا، الخالة أم موسى لم تترك الأمر يمر مرور الكرام، رتبت لها نظام الانتساب مع مدرستها، والمديرة تعاونت معها بشكل كبير لأنها تعرف أن ناهد طالبة متفوقة وجادة، والآن ستتمكن من أداء الامتحانات بشكل منتظم.
أبو فهد، وهو يعاود النظر إلى المخطط بين يديه، تمتم بتهكم:
– إذن، بينما نحن منشغلون بالبحث عن الكنز بهذه الخرائط، هناك من يخطط لإمبراطورية حلويات سرية!
مع أن أبا فهد كان يمزح، إلا أن فهد استوقفته كلمة (كنز)! أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال وهو ينظر إلى والده بجدية:
– أبي، لوهلة ظننت أنك تمزح… ولكن ماذا لو كان هناك بالفعل شيء ثمين يخفيه أبو مشاري في القبو؟
صمت أبو فهد قليلاً، وكأنه يفكر بجدية في الأمر. ثم استأذن من فهد ليجتمع بناهد لبعض الأسئلة. وافقت أم موسى سريعًا، فأحضرت ناهد.
بعد بضع دقائق، طلب أبو فهد من فهد الانصراف لبعض الوقت. نظر إليه فهد بارتياب، ولكنه قرر ألا يجادل وترك الغرفة.
بعد خروجه، استدار أبو فهد إلى ناهد وسألها بصوت خافت، بنبرة الأب الذي يريد أن يطمئن:
– كيف حالك الآن؟ هل تواجهين أية مشاكل؟ هل تعرضتِ لأي إزعاج؟
رفعت ناهد نظرها إليه، وأجابت بثقة:
– حالي الآن أفضل من السابق بكثير. صحيح أنني مللت البقاء في مكان واحد دون تغيير، ولكن على الأقل أشعر بالأمان هنا.
أومأ أبو فهد برأسه بتفهم، ثم انتقل إلى سؤاله التالي، بصوت أخفض:
– وكيف يعاملكِ فهد والبقية؟ أسألكِ عن فهد تحديدًا.
ترددت قليلًا قبل أن تجيب:
– لم ألاحظ أي تغيير في تعامله معي. منذ أن أصبحت أكثر استقلالية في مقر إقامتي الحالي، بالكاد أراه، وإن صادفته، فلا أجد في تصرفاته ما يختلف عن المعتاد.
امتعض أبو فهد قليلًا، شرد بذهنه وهو يتمتم في داخله:
– ألا يوجد شيء يتحرك بداخل هذا الابن؟ شيء ينبض حين يرى أنثى؟! كأن جاذبيته تجاه النساء معدومة تمامًا! هناك شيء في داخله مضبوط على وضعية ( عدم المبالاة العاطفية)، وكأنه لم يسمع يومًا عن مشاعر تُدعى الانجذاب!
ثم التفت إلى ناهد وسألها بصوت جاد:
– أريد أن أسألك عن شيء محدد… كنتِ قريبة من المطبخ بالفندق، ومن هناك يوجد ممر ضيق يؤدي إلى القبو، حيث وجدناكِ أنتِ وفهد، هل لاحظتِ من يستخدم هذا الممر عادة؟
عقدت ناهد حاجبيها قليلًا، وكأنها تحاول استرجاع التفاصيل:
– المستخدمون محدودون جدًا، ليسوا أكثر من موظفي شركة الصيانة… ولكن هناك شيء غريب لاحظته، هؤلاء لا يدخلون إلا وأبو مشاري معهم، ودون حارسه الشخصي.
قطب أبو فهد جبينه:
– دون الحارس الشخصي؟ غريب! ألم يكن يلازمه كظله؟
أومأت ناهد برأسها:
– بلى، وهذا ما لفت نظري… أبو مشاري يذهب إلى القبو وحيدًا مع هؤلاء، وكأنه لا يريد لأحد غيرهم أن يعرف ما الذي يجري هناك.
ضحك أبو فهد ضحكة قصيرة، ثم علّق ساخرًا:
– طالما كان القبو مظلمًا، فمن الطبيعي أن يختفي ظله!!
يصمت أبو فهد لوهلة، يمعن التفكير فيما سمعه، ثم ينظر إلى ناهد مجددًا قبل أن ينادي على فهد ليعود إلى الغرفة. بمجرد دخول فهد، يبادله والده بنظرة ذات مغزى، ثم يقول:
– هناك شيء لفت انتباهي فيما قالته ناهد… أبو مشاري يدخل القبو وحده، بلا حراسه، فقط مع عمال صيانة محددين… ألا ترى أن هذا غريب؟
عقد فهد ذراعيه، ورفع حاجبه بتفكير، ثم قال:
– غريب جدًا… هذا الرجل لا يتحرك إلا وسط جوقة من الحرس، فما الذي يجبره على النزول وحيدًا؟ لا يبدو أنه يثق بأحد، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد لأي طرف خارجي أن يطّلع على ما يجري هناك.
أبو فهد هز رأسه موافقًا، ثم التفت إلى ناهد مجددًا وسألها بنبرة أكثر تحديدًا:
– حسنًا، عندما كان ينزل إلى القبو… كم من الوقت يستغرق في العادة هناك؟ وهل لاحظتِ أي تغيير في تعابيره قبل دخوله وبعد خروجه؟
ناهد أمالت رأسها قليلًا، تحاول استرجاع التفاصيل بدقة، ثم أجابت بعد تفكير:
– المدة تختلف، ولكن غالبًا لا تزيد عن ساعة. أحيانًا يخرج بسرعة وكأنه أنهى أمرًا روتيبًا، وأحيانًا أخرى يخرج متجهمًا، متوترًا… وأحيانًا تبدو عليه علامات الارتياح! كأنه كان ينتظر أمرًا معينًا هناك… لا أدري كيف أصفه، ولكنه لم يكن يدخل ويخرج بالحالة المزاجية نفسها في كل مرة.
أبو فهد تبادل النظرات مع فهد، وكأن كلاهما بدأ في رسم صورة غير مريحة لما قد يكون مخفيًا في القبو. فهد تنحنح وقال ببطء:
– هذا يعني أن هناك شيئًا حساسًا هناك… شيء ليس مجرد أوراق أو أموال مهربة، لأن مثل هذه الأمور لا تؤثر على حالته النفسية بهذا الشكل.
ساد الصمت في الغرفة للحظات، ثم التفت أبو فهد إلى ابنه وسأله:
– ماذا ستفعل الآن؟
ابتسم فهد ابتسامة جانبية وهو يلوح بيده نحو المخططات قائلًا:
– سنفكر… ولكن بهدوء، ودون تهور. لعبة الشطرنج هذه لم تنتهِ بعد، وأية خطوة خاطئة قد تكلفنا الكثير.
كان فهد يدرك تمامًا أن هذه الليلة لن تمر دون أن يحاول فك المزيد من الألغاز حول ذلك القبو اللعين!
وبينما كان لا يزال غارقًا في التفكير، بدت على ملامحه لحظة إدراك مفاجئة! وكأنه تذكر شيئًا بالغ الأهمية. التفت بسرعة، ونادى على خالد:
– خالد! الكيس الذي تركناه في المخبأ السابق… هل لا يزال هناك؟
خالد عقد حاجبيه قليلًا، محاولًا التذكر، ثم قال:
– أي كيس بالضبط؟ هناك أكثر من شيء تركناه هناك.
رفع فهد حاجبه بسخرية وضرب الطاولة بأطراف أصابعه، قائلًا بنبرة تهكمية:
– كم كيس هناك في رأيك يا عبقري؟؟!! كان لدينا فقط كيسان سرقناهما من الفندق، أم أنك تعتقد أننا نملك مستودعًا هناك؟!
رمش خالد بسرعة وكأن الفكرة اصطدمت بعقله أخيرًا، فاتسعت عيناه قليلًا وهو يتمتم:
– آه… نعم، نعم، الآن تذكرت! ولكن لماذا تسأل عنه الآن؟
تأمل فهد المخططات أمامه للحظات، ثم قال بصوت خافت، وكأنه يربط النقاط معًا:
– أشعر أن به شيئًا قد يساعدنا في فهم هذه الفوضى… شيء كنا نجهله حينها، ولكن ربما يكون أكثر وضوحًا الآن.
لم يسأل خالد أكثر، بل هز رأسه وغادر على عجل. وبينما كان الجميع ينتظر عودته، لاحظ أبو فهد أن ناهد تبدو مترددة، وكأنها ترغب في قول شيء ولكنها مترددة في البوح به.
بادرها بلطف قائلًا:
– يبدو أن لديكِ ما تقولينه، تفضلي يا ابنتي، لا تترددي.
ترددت ناهد للحظة قبل أن تجيب:
– لم أشأ مقاطعتكم… ولكن هناك أسئلة كثيرة تراودني منذ الحوار مع النقيب مدرك في القبو.
رفع أبو فهد حاجبه باهتمام، فأكملت بصوت خافت، وكأنها تحاول ترتيب أفكارها:
– ما حقيقة هذه الحرب بين فهد وأبي مشاري؟ وما أسباب سجنه؟ والأهم… ما السر وراء هذه المحكومية الطويلة التي امتدت لعشر سنوات؟
صمتت للحظة، ثم أضافت:
– هذه الأسئلة لم تفارق ذهني منذ ذلك الحين.
نظر أبو فهد إلى فهد، وكأنه يترك له الخيار في الإجابة، بينما ظل الأخير متجهمًا، وكأن ذكريات الماضي بدأت تفرض نفسها عليه من جديد.