أقلام

أرومة القصيد: مراجع تكوينية في ثقافة الشاعر

إبراهيم بوشفيع

كيف يصقل الشاعر موهبته؟

لا يمكن لأي بناء أن يقوم دون أساس متين ومواد خام قوية، وكذلك هو الحال مع النص الشعري. فالشعر ليس مجرد كلمات مرتبة، بل هو نتاج ثقافة عميقة وتجارب غنية تنسج خيوطه، تمامًا مثلما يحتاج الرسام إلى ألوان متعددة وخيال واسع ليصنع لوحة فنية ساحرة.

الشاعر الموهوب يدرك أن امتلاك المخيلة وحدها لا يكفي، بل يجب أن يمتلك إلى جانبها وعاءً ثقافيًا عميقًا يغذي إبداعه ويمنح كلماته قوة وتأثيرًا. فالقصائد الخالدة لم تولد من فراغ، بل هي ثمرة رحلة طويلة من البحث والقراءة والتأمل والتجربة.

فكيف يبني الشاعر ثقافته وقاموسه الشعري؟ وما هي أهم الموارد التي يجب أن يعود إليها لتنمية لغته وإبداعه وخياله وفكرته؟ في هذا المقال، سنستعرض أهم المحطات التي يمكن للشاعر، سواء كان مبتدئًا أو متمكنًا، أن يستزيد منها ليصقل موهبته ويرتقي بنصه الشعري.

1. الإضاءات الدينية: منبع الإلهام والرمزية

تعد الثقافة الدينية أحد أهم روافد الشعر، فهي تمنح الشاعر القدرة على استدعاء نصوص دينية خالدة تلامس وجدان القارئ.

هذا التناص يخلق رابطًا عميقًا بين الشاعر والمتلقي، ويشحن النص بمشاعر جياشة وقبول تلقائي للفكرة. يمكن ملاحظة ذلك في قصيدة الشاعر الفلسطيني توفيق زياد عن مجزرة كفر قاسم: “ألا هل أتاك حديث الملاحم”. هذه الكلمات تستحضر مباشرة الآيات القرآنية، مما يعزز تأثيرها في نفس القارئ.

وللشاعر الراغب في بناء هذه الثقافة، يمكنه البدء بالقرآن الكريم وقراءة تفسيراته المختلفة، مثل تفسير القرطبي أو مفاتح الغيب للفخر الرازي أو التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.

كما أن كتبًا مثل “التصوير الفني في القرآن الكريم” لسيد قطب و”المجازات النبوية” للشريف الرضي تعد كنوزًا لا تقدر بثمن.

نهج البلاغة، بأسراره البلاغية والفكرية وشروحاته الغنية كشرح ابن أبي الحديد، وروايات أهل البيت وأدعيتهم، كدعاء كميل والصحيفة السجادية، توفر أيضًا ثروة لغوية وروحانية فريدة.

ولا يمنع أن يطلع الشاعر على كتب الأديان الأخرى، فالحكمة ضالة المؤمن.

وكشواهد شعرية نقرأ مثلا:

توفيق زياد في قصيدته “ألا هل أتاك حديث الملاحم”:

ألا هل أتاك حديث الملاحم

وذبح الأناسيِّ ذبح البهائم

وقصة شعب تسمى:

حصاد الجماجم

ومسرحها… قرية..

اسمها: كفر قاسم..؟؟

الشيخ صالح الكواز في وصف مواجهة الإمام الحسين (ع) في كربلاء، حيث يستحضر قصة موسى (ع):

لم أنس اذ ترك المدينة واردًا

لا ماء مدين بل نجيع دماء

قد كان موسى والمنية اذ دنت

جاءته ماشية على استحياء

وله تجلى الله جل جلاله

في طور وادي الطف لا سيناء

وهناك خر وكل عضو قد غدا

منه الكليم مكلم الاحشاء

2. اللغة: البوصلة والمرساة

اللغة هي أداة الشاعر الأساسية، وقوامه في بناء نصه. يجب على الشاعر أن يتقن قواعد النحو والصرف والبلاغة والعروض ليضمن سلامة نصه وجماله. امتلاك لغة قوية يمنح الشاعر حرية أكبر في التعبير والتلاعب بالكلمات لخلق صور شعرية مبتكرة.

لتحقيق ذلك، يُنصح بقراءة كتب مثل “شرح ابن عقيل” في النحو، و”جواهر البلاغة” للسيد أحمد الهاشمي، و”البلاغة الواضحة” لعلي الجارم ومصطفى أمين.

وفي علم العروض، يمكن للشاعر أن يستفيد من “ميزان الذهب في معرفة شعر العرب” للسيد أحمد الهاشمي. هذه الكتب ليست مجرد قواعد جافة، بل هي مفاتيح لفهم أعماق اللغة العربية وكيفية استغلالها ببراعة.

نقرأ مثلا:

المتنبي، الذي يُعتبر قمة في إتقان اللغة العربية وبلاغتها:

أَتُراها لِكَثرَةِ العُشّاقِ

تَحسَبُ الدَمعَ خِلقَةً في المَآقي

كَيفَ تَرثي الَّتي تَرى كُلَّ جَفنٍ

راءَها غَيرَ جَفنِها غَيرَ راقي

أَنتِ مِنّا فَتَنتِ نَفسَكِ لَكِنـ

ـنَكِ عوفيتِ مِن ضَنىً وَاِشتِياقِ

أبو تمام، الذي اشتهر بتعقيده اللغوي وبلاغته الفريدة:

مشَتْ قلوبُ أُناسٍ في صدورِهِمُ

لما رأوكَ تُمشِّي نحوَهم قَدَما

أمطرْتَهُم عزماتٍ لو رَمَيت بها

يوم الكريهة ركن الدَّهر لانهدما

أبدلت أرؤسهم يوم الحفيظة من

قَنا الظهور قَنا الخطي مُدَّعَما

3. الأدب والتاريخ: رحلة في الذاكرة

الشاعر ليس منعزلًا عن تاريخ أمته وآدابها. فالاطلاع على قصص العرب وأيامهم وشعرهم يمنحه حسًا نبيهًا وسرعة بديهة.

القصص والأشعار القديمة تزود الشاعر بحصيلة لغوية وشعرية غنية.

كتب مثل “البيان والتبيين” للجاحظ، و”العقد الفريد” لابن عبد ربه، و”خزانة الأدب” لابن حجة الحموي، تعد مراجع أساسية لكل شاعر.

كما أن القراءة في التاريخ ضرورية، فالشاعر صاحب بصيرة ورؤية، ويجب أن يحلل الماضي بوعي ليفهم حاضره ويتنبأ بمستقبله. “سيرة ابن هشام”، “الكامل في التاريخ” لابن الأثير، و”مروج الذهب” للمسعودي، كلها كتب تفتح للشاعر آفاقًا واسعة لفهم مسار الأحداث الإنسانية.

نقرأ مثلا لأحمد شوقي في قصيدته “أيها النيل”، حيث يستلهم التاريخ الفرعوني:

مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ؟

وبـأَيِّ كَـفٍّ فـي المـدائن تُغْـدِقُ؟

ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من

علْيـا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ؟

وبــأَيِّ عَيْــنٍ، أَم بأَيَّــة مُزْنَــةٍ

أَم أَيِّ طُوفـانٍ تفيــض وتَفْهَــقُ؟

وبــأَىِّ نَــوْلٍ أَنـتَ ناسـجُ بُـرْدَةٍ

للضفَّتيْـن، جَديدُهــا لا يَخــلَقُ؟

تَسْــوَدُّ دِيباجًـــا إِذا فارقتهـــا

فإِذا حـضرتَ اخْـضَوْضَرَ الإِسْتَبْرَقُ

فــي كــلِّ آونــةٍ تُبـدِّل صِبغـةً

عجباً، وأَنــت الصـابغُ المُتَـأَنِّقُ

4. حوار الثقافات: من الأساطير إلى الروايات العالمية

الأساطير والملاحم الشعرية والروايات العالمية تفتح آفاقًا جديدة أمام مخيلة الشاعر وتثري تجربته الإنسانية. “الإلياذة والأوديسة” لهوميروس و”ملحمة جلجامش” ليست مجرد قصص قديمة، بل هي مصادر للإلهام والرمزية التي استخدمها شعراء كبار مثل السياب وأمل دنقل.

كما أن قراءة الشعر المترجم من لغات مختلفة يمنح الشاعر فرصة لفهم تجارب الشعوب الأخرى، وكيف يفكرون ويشعرون. قراءة أعمال شعراء مثل “ت. س. إليوت” و”بابلو نيرودا” و”جلال الدين الرومي” توسع الأفق الشعري وتكسر حدود اللغة والثقافة.

يمكننا أن نرى تأثير ذلك مثلا لدى أمل دنقل في “كلمات سبارتكوس الأخيرة” حيث يستعير الأسطورة ليناقش قضايا معاصرة:

“سيزيفُ” لم تعدْ على أَكتافهِ الصَّخرهْ

يحملُها الذين يُولدونَ في مخادِع الرقيقْ.

والبحرُ.. كالصّحراءِ.. لا يروي العطَشْ

لأنَّ من يقولُ “لا” لا يرتوي إلاّ مَن الدُّموعْ!
..

فلترفعوا عيونَكم للثائرِ المشنوقْ

فسوف تنتهونَ مثلَه.. غدا

وقبّلوا زوجاتِكم.. هنا.. على قارعةِ الطريقْ

بدر شاكر السياب في “أنشودة المطر”، حيث يستحضر أسطورة (عشتار) وهي إلهة الخصب التي تظهر رمزيتها وملامحها بوضوح حيث يقول:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الأضواء… كالأقمار في نهر

5. التجربة الذاتية: وقود الشعر الحقيقي

كل ما سبق من روافد معرفية وثقافية لا يمكن أن يكتمل دون الرافد الأهم: التجربة الذاتية. فالشعر الحقيقي ينبع من القلب، من تجارب الشاعر الشخصية، من أفراحه وأحزانه، من انتصاراته وانكساراته. أكثر القصائد خلودًا هي تلك التي كتبها أصحابها من وحي تجاربهم الحية، كما فعل المتنبي في مدائحه، أو ابن زيدون في قصائد شوقه، أو نزار قباني في رثائه لبلقيس. التجربة الذاتية هي الشعلة التي توقد النص، وتمنحه حرارة الصدق، ليبقى خالدًا في ذاكرة القارئ.

يصف إلياس أبو شبكة أهمية التجربة الذاتية في الشعر إذ يقول:

إِجرَحِ القَلبَ واسقِ شِعرَك مِنهُ

فَدَمُ القَلبِ خَمرَةُ الأَقلامِ

مَصدَرُ الصَدقِ في الشُعور هوَ القَلبُ

وفي القَلبِ مَهبَطُ الإِلهامِ

وكذلك نرى ملامح تجربة الشاعر الذاتية مثلا لدى نزار قباني في قصيدته “بلقيس”، التي كتبها بعد وفاة زوجته في حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت:

بلقيس ..

يا وجعي ..

ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل

هل يا ترى ..

من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل ؟

يا نينوى الخضراء ..

يا غجريتي الشقراء ..

يا أمواج دجلة . .

تلبس في الربيع بساقها
أحلى الخلاخل ..

قتلوك يا بلقيس ..

أية أمةٍ عربيةٍ ..

تلك التي
تغتال أصوات البلابل؟

في النهاية، بناء ثقافة الشاعر رحلة لا تنتهي، ومغامرة ممتعة في بحر المعرفة. هي عملية تراكمية تتشكل من القراءة الواسعة، والتأمل العميق، والانفتاح على مختلف التجارب الإنسانية.

هذه الروافد جميعها لا تصنع الشاعر، ولكنها تمنح الموهبة أدواتها لصياغة نصوص خالدة تلامس القلوب والعقول. فالشاعر المبدع هو الذي يجمع بين موهبة الفطرة وثقافة الاكتساب، ليقدم لنا في النهاية عملًا فنيًا متكاملًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى