من شُرفة الوعي

السيد فاضل آل درويش
ورد عن أمير المؤمنين (ع): اُنظُرْ إلى الدُّنيَا نَظَرَ الزَّاهد المُفارق وَلا تنظُر إليها نَظَرَ العاشِقِ الوَامِقِ )(بحار الأنوار ج ۷۳ ص ۱۰۹).
حكمة وتحفة سنية تشير إلى أعماق النفس البشرية وطريقة التفكير التي يتبنّاها الفرد لحياته وممارساته وعلاقاته و طموحاته، فمن المهم قبل البدء في المسير في ميادين الحياة أن ندرك وجود مسارات متعددة قد تفضي بعضها إلى طريق التيه والضياع، فكم من إنسان بذل جهدًا كبيرًا وسعيًا حثيثًا تضمّن خلاصة توظيف قدراته، ولكنه في نهاية الأمر قد غرق في بحر الهوى والشهوات المتفلّتة دون إدراك طي سجل أيامه شيئًا فشيئًا حتى بلغ محطة الرحيل، وهذا ما يدعو إلى تبني فكرة واعية ووازنة تلاحظ الارتباط بين عالم الدنيا (دار العمل) وعالم الآخرة (دار الحساب والجزاء)، تؤسس هذه الفكرة الناضجة لمنهجية الاعتدال بين الحاجات الروحية والبدنية دون الانغماس في الإفراط أو التفريط، فلا يتصوّرنّ أحد أن الدين الحنيف يدعو إلى الرهبانية والتخلي تماما عن ملذات الدنيا وزهرتها، كما أنه يقف بقوة الرشد العقلي أمام التعلق بمتاع الدنيا الزائل حتى يترسّخ في ذهنه فكرة الخلود، فالنظرة الوازنة بين عالم الروح والمادة تعني حضورًا واعيًا وفاعلًا وتحملًا للمسئوليات ودورًا وظيفيًّا طموحًا في الدنيا مع مراعاة مسألة الاستعداد للقاء الله تعالى ومغادرة هذا العالم يومًا ودون سابق إنذار، فالحياة حقيقتها مرحلة مؤقتة بأجل مسمى ينتقل بعدها إلى عالم الخلود الأبدي، وفكرة الرحيل لا تعني تشاؤمًا وركونًا إلى الراحة السلبية بعد اليقين بالرحيل، بل هي تحمل جانبا إيجابيًّا في حياتنا يشير إلى فكرة محاسبة النفس والتدقيق في كلامنا و تصرفاتنا لتكون بعيدة عن الإسفاف والفراغ وعدم المبالاة، ولذا فالزهد كمفهوم ديني مشارًا إليه في النصوص الشريفة يتلخّص في فكرة ارتباط الدنيا بالآخرة كمزرعة يبذر فيها الفرد أعماله وينتظر الحصار والإثمار في يوم القيامة، والزهد في الدنيا لا يعني الرفض للعيش الكريم والطموح واستثمار القدرات والإمكانات المتاحة لتحقيق ما نرغب فيه، فالزهد الحقيقي ليس رفضًا للحياة الكريمة أو تخليا عن إعمارها والاستفادة من الإمكانات المتاحة لتحقيق الذات الوجودي والإنجازي، بل هو عيش يتحلّى صاحبه بالوعي والنضج والحذر أمام منزلقات المغريات والشهوات المتفلّتة، فنظرة العاشق المحب (الوامق) التي حذّر منها الإمام (ع) هي الرذيلة الأخلاقية المعبّر عنها بحب الدنيا السلبي والارتباط العاطفي والوجداني مع ملذاتها حتى تصبح غاية آماله وقبلة أفعاله، وهذا ما يحدث خواء نفسيًّا يشعر معه المرء المتعلّق بالدنيا بالقلق من الابتلاء بفقد شيء من حطامها الزائل.
وأما الزهد فهو حالة التوازن والاعتدال بين حاجات الروح والمادة، وتربية الضمير و تهذيب النفس للتحكم والضبط في التعامل مع المشتهيات أمام حدود الله تعالى، كما أنه التحلي بروح القناعة والرضا برزق الله تعالى بعد بذل الجهود الحثيثة في سبيل تحقيق الغايات المرجوة بعيدًا عن الجشع والطمع وعقد المقارنات مع الآخرين، والتي لا تورث سوى حسرة النفس وانعقاد بذرة الحسد وتأجج مشاعر الكراهية .