أقلام

تفوق الإمام الرضا (عليه السلام) العلمي على علماء الملل والنحل

زاهر العبد الله

مقدمة: يتميز الإمام الرضا عليه السلام بعلمه الواسع وفقهه العميق، حتى أصبح مضرب المثل في سعة المعرفة وقوة الحجة. وقد تجلى تفوقه العلمي بوضوح في مناظراته مع علماء الملل والنحل (أتباع الديانات والمذاهب المختلفة) في عصر الخليفة المأمون العباسي، الذي شجّع المناظرات العلمية بين الأديان والمذاهب.

تأمل في عبقرية الإمامة

في زمنٍ تعالت فيه أصوات المذاهب، وكثرت فيه الفِرَق والنِّحل، برز الإمام الرضا (ع) كالشمس في رابعة النهار، فغلبهم بحجته، وأدهشهم بعلمه، وألزمهم بمنطقه. وقد شهد بفضله وعلمه جملة من علماء السنة، منهم ابن الأثير والذهبي والشافعي وغيرهم. ونأخذ شاهدًا:

ابن الأثير (المتوفى: 606هـ): يقول في “جامع الأصول” في خصوص فضائل الإمام: “علي بن موسى الرِّضا هو أبو الحسن، علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، المعروف بالرضا… وإليه انتهت إمامة الشيعة في زمانه. وفضائله أكثر من أن تُحصى، رحمة الله عليه ورضوانه.” (3)

أبدع في مناظراته عليه السلام

حيث جمع المأمون علماء الملل والنحل ليناظروا الإمام الرضا (عليه السلام) بغرض خلط الأوراق على من افتتنوا بعلم الإمام، كي لا يكون هو الوحيد الذي لا يُضاهى، ولكنه خسر توقّعاته وخابت خططه أمام علم الإمام. فحاور النصارى واليهود والمجوس والصابئة وأهل الكلام، فأفحمهم جميعًا، وأقام عليهم الحجة من كتبهم وبمنطقهم.

نأخذ شاهدًا من مناظرته مع عِمْران الصائبي:

قام إليه عمران الصابي وكان واحدًا من المتكلمين فقال: “يا عالم الناس، لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، فلقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة، ولقيت المتكلمين، فلم أقع على أحد يثبت لي واحدًا ليس غيره قائمًا بوحدانيته. أفتأذن لي أن أسألك؟”

قال الرضا (عليه السلام): “إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو؟”قال: “أنا هو.”

قال: “سَلْ يا عمران، وعليك بالإنصاف، وإياك والخطل والجور.”

قال: “والله يا سيدي، ما أريد إلا أن تثبت لي شيئًا أتشبث به فلا أتجاوزه.”

قال: “سَلْ عمّا بدا لك.” فازدحم الناس، وانضم بعضهم إلى بعض، فقال عمران:

“أخبرني عن الكائن الأول وعما خَلق؟”

فقال له: “سألت فافهم: أما الواحد فلم يزل واحدًا كائنًا لا شيء معه، بلا حدود ولا أعراض، ولا يزال كذلك. ثم خلق خلقًا مبتدعًا مختلفًا بأعراض وحدود مختلفة، لا في شيء أقامه، ولا في شيء حدّه، ولا على شيء حذاه ومثّله له…”

ثم بعد عدة أجوبة سمعها من الإمام ابهر بغزارة علمه، وجميل منطقة، وحسن بيانه، وقوة حجته.

قال عمران الصابي: “نعم يا سيدي، قد فهمت، وأشهد أن الله تعالى على ما وصفت ووحّدت، وأشهد أن محمدًا (ص) عبده المبعوث بالهدى ودين الحق.” ثم خرّ ساجدًا نحو القبلة، وأسلم. (4)

شهادة الخصوم بفضله

أهل البيت عليهم السلام أيدهم الله سبحانه بصفات خاصة ذكرها مولانا السجاد عليه السلام في خطبته بحيث تجعل من يجالسهم ويسمع حديثهم يذعن لهم بالفضل والعلم فلا يجد في نفس بُد إلا أن يُسلم لهم في قولهم ولا يرد حجتهم.

فعن الفضل بن العباس، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: “ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي. ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الأديان، وفقهاء الشريعة، والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقرّ له بالفضل، وأقرّ على نفسه بالقصور.” (5)

كان يجمع بين العقل والنقل

من خصائص أهل البيت عليهم السلام أن كلامهم فصل وأمرهم رشد ينطق روح القدس على لسانهم

فلم يكن علم الإمام الرضا (عليه السلام) رواية فقط كما يتوهمه البعض، بل نورًا يجمع بين البرهان العقلي والنص الشرعي، يخاطب العقل، ويحيي الفطرة، ويلامس عمق الوجدان.

أدبه وأخلاقه في الحوار

كان الإمام عليه السلام بأعلى درجات المتقين حيث أنك ترى له قوة في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم، وقصدًا في غنى، وخشوعًا في عبادة، وتجملًا في فاقة، وصبرًا في شدة، وطلبًا في حلال، ونشاطًا في هدى، وتحرجًا عن طمع يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر يبيت حذرًا، ويصبح فرحًا: حذرًا لما حذر من الغفلة، وفرحًا بما أصاب من الفضل والرحمة. لذلك لا يرفع صوته، ولم يهزأ بأحد، بل كان يستمع ويبتسم، ويرد بحكمة، فيخترق الحجب إلى القلوب. فيُسلم له من حاوره بقلب راضي مطمئن.

كان صاحب الحجة البالغة

كان في قوة حجته أنه يجيب بلغات خصومه، ويهزمهم بمنطقهم لأنه أعرف بدينهم ومعتقداتهم منهم حتى انبهر به المأمون العباسي وغيره. كما جاء في “عيون أخبار الرضا (ع)” و”أمالي الصدوق”: عن البيهقي، عن الصولي، عن أبي ذكوان، قال: “سمعت إبراهيم بن العباس يقول: ما رأيت الرضا (عليه السلام) سُئل عن شيء قط إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره. وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيُجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن. وكان يختمه في كل ثلاثة أيام، ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت، ولكني ما مررت بآية قط إلا فكّرت فيها وفي أي شيء نزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرت أختم في كل ثلاثة أيام.” (6)

رسّخ عقيدة الإمامة في النفوس

بيّن أن الإمام عليه السلام ليس مجرد عالم، بل هو حافظ معالم الشريعة، وكاشف أسرار القرآن الكريم، ومستوعب لعلوم النبيين كيف لا هو الامتداد الطبيعي لرسالة النبوة في تبليغ أومر الله سبحانه والدليل على ذلك ما قاله الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، قال: “سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى: ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾، قال: نحن العلامات، والنجم رسول الله (صلى الله عليه وآله).” (7)

فالسلام على مولانا الرضا (عليه السلام) يا من غلب بعلمه، وأفحم بحلمه، وأحيا الدين بنوره.

المصادر:

١- مناقب أحمد لابن الجوزي، ص 163.

٢-بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 26 – ص 269.

ابن الأثير الجزري، جامع الأصول، ج 12، ص 715، دار الفكر

٣-عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 150.

٤-بحار الأنوار – ج 49 – ص 100.

٥-بحار الأنوار – ج 49 – ص 90.

٦-الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 207.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى