التطوع عند مفترق الطرق .. بين حرارة المبادرة وقسوة الإجراءات

سامي آل مرزوق
بعد نشر المقال السابق” العطاء الذي انطفأ.. بعدما أصبح التطوع رفاهية لا ثقافة” جاءني سيل من التعليقات والرسائل، بعضها مفعم بالحنين، وبعضها مشوب بالعتب، وكلها محملة بالأسئلة هناك من رأى أن تغير نمط الحياة وضغوط المعيشة جعلا الوقت نفسه سلعة نادرة لا يملك كثيرون رفاهية التبرع بها، حتى لو كانت ساعة تطوع واحدة، وهناك من ألقى باللوم على ما وصفه بالروح البيروقراطية التي باتت تسيطر على بعض الجمعيات والمؤسسات الخيرية، فتجعل العطاء يمر بسلسلة من الإجراءات والتصاريح والخطابات، قبل أن يصل إلى المستفيد ، وهكذا، وجد الناس أنفسهم أمام مشهد تطوعي تغيرت ملامحه وانكمش دفؤه العفوي.
هذه الردود دفعتني إلى إعادة النظر في واقع التطوع اليوم، فالحياة المعاصرة جاءت بإيقاع أسرع ومسؤوليات أكثر، وجعلت الكثيرين يشعرون أن وقتهم محاصر، وفي المقابل انتقل العمل التطوعي من مبادرات تلقائية تُدار بالنية الصافية، إلى منظومات مؤسسية مُحكمة، تخضع للتوثيق والتقييم، وتستند إلى خطط واستراتيجيات، هذا التحول ليس سلبياً في جوهره، بل هو دليل على نضج المجتمعات وإدراكها لقيمة التنظيم، لكنه قد يفقدنا أحياناً شيئاً من العفوية التي كانت تحرك القلوب قبل أن تحرك الجداول الزمنية.
اليوم يقف العمل التطوعي عالمياً عند مفترق طرق واضح، فمن ناحية شهدنا خلال السنوات الأخيرة توسعاً غير مسبوق في المبادرات والمنصات الرقمية التي تسهل تسجيل المتطوعين وتتيح مئات الآلاف من الفرص المتنوعة، حتى بات التطوع جزءاً من خطط التنمية المستدامة التي تتبناها منظمات وهيئات دولية، بالشراكة مع المجتمعات المحلية، وعلى الأرض تبرز مشاريع ملهمة، من إعادة تأهيل البيئات المتضررة عبر زراعة الأشجار وحصاد مياه الأمطار، إلى تشكيل فرق متخصصة لحماية المحيطات والحياة البرية، تجتمع بين تمكين الإنسان وصون الطبيعة.
لكن في المقابل، يظل السؤال قائماً، هل تعكس هذه الأرقام المتزايدة عمق الارتباط بروح العطاء فعلاً؟ حين يتحول التطوع لدى البعض إلى متطلب أكاديمي، أو وسيلة للظهور الإعلامي، أو نشاط عابر للتسلية، فإننا نخسر جزءاً من جوهره، لا بأس أن يحمل التطوع بعداً اجتماعياً أو ترفيهياً، لكن الخطر يكمن حين يصبح هذا البعد هو المحرك الأساسي، فتتراجع الدوافع الإنسانية النقية إلى الظل.
ويزيد الأمر تعقيداً أن بعض المتطوعين يشعرون أن بيئة الجمعيات الخيرية لم تعد جاذبة كما كانت، بسبب ثقل الإجراءات وتعدد الشروط، مما يطفئ الحماس قبل أن يبدأ، العمل المؤسسي مهم، لكن نجاحه الحقيقي يكون حين يدمج بين الانضباط والمرونة، وحين يترك مساحات للعطاء التلقائي الذي لا يحتاج إذناً أو خطاباً رسمياً.
فالساعات التطوعية التي تُسجل على الورق دون أثر حقيقي، لا تختلف عن ورقة بيضاء بلا معنى، بينما فعل صغير، يُنجر بينة صادقة قد يغير حياة إنسان، فقد كانت المبادرات البسيطة تنطلق تلقائياً من الأفراد، فيلتف حولها الآخرون بدافع المشاركة لا الدعوة الرسمية، أما اليوم فكثير من تلك المبادرات يمر عبر مسار طويل من الاجتماعات والموافقات قبل أن يرى النور، وربما يتوقف إذا تعذر التصريح. فالتحدي إذن هو أن نعيد للتطوع دفئه الإنساني، مع الحفاظ على مكتسبات التنظيم، نحتاج إلى بيئة تحتضن المتطوعين، وتفتح لهم الأبواب بدل أن تغلقها بالإجراءات، نريد مؤسسات قوية وشفافة، لكنها تدرك أن الإنسان هو روح العمل التطوعي، وأن النية الصادقة لا تقل أهمية عن الخطة المحكمة.
العطاء الحقيقي لا يُقاس بعدد الساعات ولا بحجم التوثيق، بل بما يتركه من أثر في القلوب والمجتمعات، وحين يتوازن العقل الذي يخطط مع القلب الذي يمنح، نكون اخترنا الطريق الصحيح عند هذا المفترق، وحينها فقط سيبقى التطوع جسراً نابضاً يربط بين الناس، لا ملفاً إدارياً ينتظر الختم والتوقيع.
وحين أعود بذاكرتي إلى ما كتبته في المقال السابق، أدرك أن الحديث عن العطاء ليس إسهاباً بلا جدوى ولا تكراراً، بل هو محاولة مستمرة لإيقاظ ما قد ينام فينا من إنسانية، فالتطوع إن فقد حرارته صار رقماً باردا، وإن فقد تنظيمه، تلاشى أثره، فهل سنختار عند هذا المفترق، طريق القلب أم طريق الإجراءات.