الخيبة الكبرى (٢)

السيد فاضل آل درويش
قال تعالى : { … وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا }{ طه الآية ١١١ }.
من صور الظلم الذي يحمله الإنسان وزرا على ظهره هو وهم الاستثناء والتفرد عن غيره، فيعتقد أن هذه الخطوات والمراحل التي يقطعها ستوصله إلى نتيجة مختلفة عما وصل إليه غيره، والحقيقة أن الحفرة في الشارع سيسقط فيها كل من وصل إليها بغض النظر عن تفاصيل شخصيته، وسيكون الشخص التالي ضحية وهمه المعرفي بأنه أذكى من غيره وسيأتي بنتيجة مخالفة لنفس الطريقة والعمل الذي سار عليه الآخرون، فالعوامل المؤدية إلى رذيلة أخلاقية كالكذب والخيانة – مثلًا – لها مسارها في ابتعاد الفرد عن الحكمة والمصداقية و بناء جسور الثقة والتحوّل إلى الروح الانتهازية، وممارسة الإنسان لها يدل على عدم استيعابه لتجارب الآخرين والنتائج التي وصلوا إليها، فهذه الحياة تقدّم لنا من خلال التاريخ البشري نماذج متعددة مع وجود مسارات غريزية متفلّتة سلكها من قبلنا وأدّت إلى نتائج كارثية وخسارات فادحة ستصيب بالتأكيد من يسير على نفس الخُطى، وأما المسار المتوافق مع العقل الواعي هو تحمّل مسؤولية تصرفاتنا وأخذ العظة من تجارب الآخرين فتكون سيرتهم ومصائرهم موضع تحذير وانتباه فليس هناك من استثناء لأحد في النتائج مع اتحاد المعطيات، والإنسان الخائب يتحمّل وزر الغفلة والجهالة ويحتطب على ظهره وزر عمى البصيرة والسير خلف الشهوات والأهواء كما سار عليها مَن قبله، ويحذوه في الطريق الأوهام والظنون الخائبة التي تتعلّق بوجود محددات شخصية (كاريزما) في قدراته العقلية والمهارية الخارقة، قد تحقق له بواسطة الحِيل والمراوغات التي يتقنها من النتائج ما يغيّر مساره عمن سبقه، والنتيجة هي أن الخيبة قد لحقته و دبقوة بسبب الكم الهائل من النماذج البشرية التي يقدّمها له التاريخ عبر مراحله الزمنية المتعاقبة، ولكن لا جدوى من الخطاب والتوجيه لمن أصيب بالعمى المعرفي والسلوكي ووقع ضحية لأمانيه الفارغة.
الخيبة الكبرى لا تتشكّل دفعة واحدة وليست بقرار مفاجيء أو خطوة أحادية حكم الفرد على نفسه بعدها بالتدمير، بل هي مسألة تراكم سلبي من الغفلة وعدم محاسبة النفس وقراءة ذاته والواقع و الاطلاع الناضج على التجارب الإنسانية، مع ما يصاحبه من رذيلة أخلاقية ونفسية تتعلّق بالتزمّت وعدم الاعتراف بالخطأ بل والاتجاه نحو أسلوب إبداء الأعذار الواهية والتبريرات غير المنطقية لأفعاله، وهكذا في كل خطوة وفكرة يقدم عليها تمثّل واقعا يوضع على ميزان التقييم، والذي قد يتجه به نحو التألق و تصحيح الأخطاء والاستفادة من التجارب كمن يحمل معه قبس نور وهدى يسير به في دروب الحياة، وآه ثم آه ممن حمل ظلما لنفسه بجهله وغفلته وغروره وعدم محاسبة نفسه ليتشكّل أمامه ركام الخيبة الكبرى في نهاية المطاف، وهذه الخيبة تتمثّل في كل موقف وقرار خاطيء وكلمة غير مدروسة وتعدّ على حقوق الآخرين وممارسات غير أخلاقية لم تتعظ النفس من نتائج الخسارة التي أصابت غيره، فقد تحمّل ظلم نفسه وتدنيس فطرته السليمة وطمس هوية الوعي والنظر في العواقب عن ضميره، وما جرّأه على التمادي في خيبته هو تبلّد وجدانه الذي يخاف من العقوبات اللحظية بينما أصابه العمى من رؤية مستقبلية رسمتها البصائر القرآنية عن العقوبة الكبرى في يوم القيامة.