حتى النَّفَس الذي يملأ صدرك ليس لك

أحمد الطويل
تنويه:
هذه المقالة الخامسة في سلسلة مقالاتنا حول براهين إثبات وجود الله، والتي نقدم فيها واحدة من أعمق وأدق البراهين الفلسفية، وهو برهان الإمكان الفقري، مستفيدين من كتاب “تبيين البراهين على إثبات وجود الله” للشيخ عبد الله الجوادي الآملي. يُنصح بمتابعة المقالات السابقة لفهم السياق الكامل لهذا البرهان.
مقدمة:
لغز الوجود الملتبس.
هل تساءلت يومًا لماذا تستمر في الوجود الآن، وليس غدًا فقط؟ لماذا لا تختفي فجأة كما لو لم تكن؟ السر يكمن في علاقة غامضة لا تكاد تُدرك بيننا وبين شيء أبعد من العقل والتجربة: وجود لا نفهمه إلا من خلال أثره المستمر علينا. هذا هو جوهر برهان “الإمكان الفقري” البرهان الذي لا يقتصر على إثبات بداية الوجود، بل يشرّح كيف أن وجودك منقوش بنقش إلهي حيّ، متصل به في كل نبضة من نبضات الحياة. في هذه الرحلة، سنكشف عن ذلك الوصل الخفي الذي يربط الممكن بالواجب، والموجود بالموجد، حتى تنكشف حقيقة لا يمكن الهروب منها: أننا لا نملك أنفسنا، ولا حتى لحظة واحدة من وجودنا.
الإمكان والوجوب: حين تتشابك خيوط الوجود
لطالما وقف الفلاسفة على أبواب عميقة للتفكير في الوجود، وبنى ابن سينا أساسًا متينًا لما يعرف بـ”برهان الإمكان والوجوب”. لكن برهان الإمكان الفقري يتجاوز هذا الإطار ليؤكد: ليس فقط أن الممكن يحتاج إلى واجب في البداية، بل هو يعتمد عليه في كل لحظة من وجوده. تخيّل الكون آلة معقدة لا تتوقف، وكل جزء فيها يعتمد على طاقة لا تنقطع. الإمكان هنا ليس مجرد احتمال وجود، بل حالة مستمرة تتطلب عونًا دائمًا من الواجب.
مثال: لو تأملت شجرةً في حديقة، أنت تعلم أن وجودها قائم، ولكن ما الذي يجعلها تستمر في النمو والتنفس؟ ليس وحدها. هناك طاقة متدفقة من الشمس، مياه، تراب، وجوّ متكامل. هذه العوامل تمثل “الواجب” في استمرارية حياة الشجرة.
من المصباح إلى الوجود: استعارة القلب والفكر
كيف نفسر ذلك بشكل أبسط؟ تخيّل مصباحًا كهربائيًا. وجود المصباح ممكن، ولكنه لا يضيء إلا بتيار مستمر من الكهرباء. نحن في هذا المثال، المصباح، والوجود هو الضوء، والله هو التيار الذي لا ينقطع. ولو انقطعت الكهرباء للحظة، انطفأ الضوء فورًا. وهذا بالضبط حالنا: إن انقطع تدفق الوجود الإلهي، لانعدمنا على الفور. حتى أنفاسنا، نبضات قلوبنا، وأفكارنا، لا تتحقق إلا بهذا التيار الحي الذي يمدّنا بالوجود آنًا فآنًا.
توضيح: كأن وجودنا قطعة رقيقة من الزجاج، لا تبقى متلألئة إلا إذا مر عليها شعاع الشمس بشكل مستمر، وإذا غاب هذا الشعاع، تختفي لمعة الزجاج وتتلاشى تمامًا.
الفقر الوجودي: لماذا نحن لا نملك أنفسنا؟
هل تملك نفسك؟ قد يبدو السؤال غريبًا، ولكن برهان الإمكان الفقري يكشف أننا ليس لنا. كل لحظة من وجودنا ليست ملكًا لنا، بل هي عطاء من الواجب الوجودي الذي لا ينقطع. لو أردنا أن نكون موجودين دون هذا العطاء، لما وجدنا. إذن، فقرنا ليس مجرد حاجة بسيطة، بل هو جوهر وجودنا. هذه الحقيقة تصل إلى عمق الإيمان والتوحيد، إذ لا يكون لله وجود إلا إذا كنا نحن موجودين كذلك، ولا نستطيع أن نوجد من دونه.
بين العقل والوجدان: كيف يثبت برهان الإمكان الفقري وجود الله في النفس؟
برهان الإمكان الفقري لا يظل محصورًا في الطرح الفلسفي المجرد، بل يمتد ليصل إلى ضمير الإنسان وعقله. حين يشعر الإنسان بفقره الداخلي، ويجد أن وجوده هش لا يستطيع تفسيره بنفسه، يبرز برهان الإمكان الفقري كإجابة عميقة. لا يمكن للعقل أن يستوعب وجود ممكن قائم بذاته. الإدراك الداخلي لهذا الفقر الوجودي يوقظ وجدان الإنسان، ويثير لديه الحاجة الماسة إلى وجود واجب، قائم بذاته، ممسك به. بهذا، يصبح البرهان جسرًا بين العقل والوجدان، وبين الفلسفة والدين، فلا ينفصل العقل عن الروح، ولا يغيب الوجدان عن التأمل.
الخلاصة:
السر الكامن في نبض وجودنا.
في أعماق وجودنا يكمن سر لا يمكن تجاوزه: أننا لا نملك أنفسنا ولا حتى لحظة من حياتنا، بل نحن مرهونون بوجود أزلي لا ينقطع، وجود الله الحيّ القيوم. برهان الإمكان الفقري يكشف أن وجود الممكن ليس صدفة أو حالة عشوائية، بل سلسلة مستمرة من الاتصال الدائم بالواجب المطلق، أصل كل شيء وباقٍ على كل شيء.
كما أن المصباح لا يضيء دون تيار كهربائي مستمر، نحن لا نستمر في الوجود إلا بتيار الحياة الإلهي، الذي لا ينقطع لحظة. ففقرنا الوجودي هو الحقيقة التي توقظ العقل والوجدان معًا، وتجعلنا ندرك أننا محتاجون دومًا إلى ذلك الوجود الذي لا يغيب ولا يموت.
هذه الحقيقة ليست مجرد فكرة فلسفية، بل إعلان هادئ عن عمق ارتباطنا بالله، الذي لا وجود إلا به، ولا حياة إلا بفضله. فلتكن هذه الدعوة مفتاحًا لوعي جديد، حياة جديدة، وارتباطًا أعمق مع الواجب الوجودي الذي يحملنا ويثبتنا.
فهم هذا الربط الأبدي بين الإمكان والوجوب هو المفتاح الحقيقي لإدراك أن الوجود هبة مستمرة، وأن قوتنا الحقيقية تكمن في الإقرار بهذا الاعتماد العظيم.
اللهم يا من أنت الوجود كله وأنت الحي القيوم، نسألك أن تفتح قلوبنا لفهم أسرارك، وأن تملأ نفوسنا يقينًا بوجودك الدائم الذي لا ينقطع. اللهم اجعلنا دائمًا من الذاكرين لك، المعتمدين عليك في كل لحظة من حياتنا، وامنحنا الفهم العميق لنعمة وجودنا المستمر بفضلك ورحمتك. اللهم ثبت أقدامنا على صراط الحق، وارزقنا نور الحكمة والسكينة في رحلة البحث عنك، واجعلنا من الذين لا يغيبون عنك ولا تغيب عنهم. آمين.