أقلام

بين حرية الريادة وأمان الوظيفة: هل الوظيفة عبودية أم ضمانة؟

غسان علي بوخمسين

انتشرت دعوات في السنوات الأخيرة، على منصات التواصل الاجتماعي ومحتوى “التنمية البشرية”، تحث الشباب على نبذ الوظيفة والتوجه لريادة الأعمال، مستشهدة بأقوال أدبية لعباس محمود العقاد الذي وصف الوظيفة بـ “العبودية”، أو لفرانز كافكا الذي رأى فيها “مسخًا” يُفقد الإنسان إنسانيته. ورغم قوة هذه الاستشهادات الأدبية وجاذبيتها العاطفية، فإن هذه الدعوات تُقدّم صورةً مشوّهةً وغير دقيقة لواقع كل من الوظيفة وريادة الأعمال في القرن الحادي والعشرين، متجاهلة تعقيدات الاقتصاد الحديث ومخاطرة بشبابٍ يبحث عن خلاص سريع من قيود قد لا يكونون مستعدين لها. إن استخدام أدب العقاد وكافكا في هذه الدعوات، خارج سياقهما الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي والنفسي خطأ كبير. فقد كتب كافكا في أوائل القرن العشرين عن رعب البيروقراطية وفقدان الهوية في ظل أنظمة عمل مجهولة، بينما عبّر العقاد عن رفضه الشخصي للعمل تحت إمرة الآخر كتعبير عن نزعته الفردية. هذه الآراء وُلدت في حقبة مختلفة تمامًا، حينها كانت الوظيفة غالبًا مسارًا ثابتًا ومقيّدًا بلا ضمانات حقيقية أو حقوق موظفين. ينبغي الإشارة الى أن العقاد كتب مقالته عام 1907 وهو في الثامنة عشرة من عمره، أي في ريعان شبابه وحماسته وتمرده، وأما كافكا فقد عرف بأدبه العبثي ولغته الاستعارية المتناقضة وأسئلته الوجودية القاسية والحاكية عن الاغتراب وضياع الهوية، حتى سمي أدبه بالأدب الكافكوي أو “الأدب الكابوسي” لما فيه من سوداوية وعبث وتناقض. وهنا ينبثق سؤال مهم يتعلق بمسؤولية الإعلام والأدب في تشكيل الوعي المجتمعي. فالاستشهاد بالأدب والفلسفة يمكن أن يكون أداة قوية لفهم تعقيدات الوظيفة الحديثة، لكنه يجب أن يتم بحذر وبوعي نقدي. وهنا نقاط توضيحية: 1/ الأدب مرآة وليس برنامج عمل الأدب النقدي (مثل كافكا أو العقاد) لا يقدم إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة وجودية عن معنى العمل والحرية والاغتراب. استخدامه في الإعلام يجب أن يكون بهدف التفكير النقدي وليس التنفير المباشر. 2/ خطر التبسيط والإقصاء الوظيفة ليست شراً محضاً فهي للكثيرين (خاصة في المجتمعات غير المستقرة اقتصاديًا) تمثل مصدر أمان أساسي. – بعض الوظائف توفر فرصًا للنمو والإبداع (مثل البحث العلمي، التعليم، الطب). /3 مسؤولية الإعلام، النقد البنّاء لا الهدم يمكن استخدام المقولات الأدبية في: – كشف الممارسات السيئة (الاستغلال، الروتين القاتل، انعدام التقدير). – الدعوة لإصلاح أنظمة العمل (مرونة أكثر، تركيز على الإنتاجية لا الحضور، تحسين بيئة العمل). – تشجيع التوازن بين العمل والحياة الشخصية. لكن ليس للتحريض ضد فكرة “العمل المؤسسي” ككل. 4/ الأدب لا ينفّر – بل يثير التساؤل عبقرية كافكا والعقاد أنهما لم يقدما شعارات، بل صورًا مروعة لجوانب معينة من البيروقراطية والروتين. الإعلام الجيد يستفيد من هذه الصور: – طرح سؤال: كيف نبني نظام عمل إنساني؟ – مقارنة نماذج العمل القديمة بالحديثة (إيجابيات وسلبيات كل منها). – ذكر تجارب ناجحة (مثل شركات ركزت على إنسانية الموظف). إن الاستشهاد بالمقولات الأدبية مشروع وقيم، لكن: – يجب أن يكون جزءًا من حوار نقدي شامل ( ليس خطابًا أحاديًا). – يجب ربطه بالواقع الاقتصادي والاجتماعي (ما البدائل؟ ما الحلول؟). – يجب عدم إغفال الجوانب الإيجابية للعمل المنظم (الأمان الاجتماعي، العمل الجماعي، التقدم المهني). في عالم اليوم، الوظيفة لم تعد كالسابق. فقوانين العمل في معظم الدول تحمي حقوق الموظف، وتوفر له ضمانًا اجتماعيًا، وإجازات، وتأمينًا صحيًا، ومسارًا وظيفيًا يمكن تطويره. ليست الوظيفة بالضرورة “عبودية”، بل يمكن أن تكون منصة للإبداع، والتعلم، وبناء شبكة علاقات احترافية، ومصدر دخل مستقر يسمح للفرد بمتابعة شغفه على الجانب دون مخاطرة مالية طاحنة. وريادة الأعمال ليست الحرية المطلقة التي يُروج لها في المقابل، حيث تُقدّم ريادة الأعمال في هذه الدعوات على أنها أرض الحرية والثراء السريع. لكن الواقع مختلف تمامًا. الريادة تحمل مشاكل وعقبات يُسكت عنها مثل : 1/ مخاطرة عالية: فأكثر من 90% من startups تفشل خلال سنواتها الأولى. 2/ ضغط نفسي هائل وتوتر مالي، ساعات عمل لا تنتهي، ومسؤولية تجاه موظفين وعملاء. 3/ عبودية من نوع آخر: قد يجد الريادي نفسه عبدًا للبنك، للمستثمر، للسوق، ولعملاء متطلبين، بضغط يفوق ما يعانيه الموظف العادي. ريادة الأعمال ليست هروبًا من “العبودية”، بل هي تبادل لعبودية ذات راتب ثابت وضمانات، بعبودية أخرى ذات مخاطرة عالية وربح غير مضمون. ليست طريقًا للجميع، بل تتطلب شخصيةً مناسبة، وفكرةً متميزة، وبيئةً داعمة، ورأس مال. بل إن هذه الدعوات تتجاهل المشاكل الحقيقية التي تواجه رواد الأعمال في المنطقة، مثل: 1- صعوبة التمويل وعدم نضوج بيئة الاستثمار الجريء في العديد من البلدان. 2- التعقيدات البيروقراطية والإجرائية لبدء المشاريع. 3- طبيعة الأسواق غير المستقرة في كثير من الأحيان. الدعوة لترك الوظيفة دون تمكين الشباب من الأدوات الحقيقية للنجاح (التعليم الجيد، التمويل،التطوير، الإرشاد) هي دعوة غير مسؤولة قد تؤدي إلى البطالة، والإحباط، والدَين. الخطورة الأكبر لهذه الدعوة الشعبوية، هي تبسيطها المعقد ودفعها الشباب لاختيارات ثنائية (إما وظيفة “عبودية” أو ريادة “حرية”)، بينما الحياة العملية أكثر تنوعًا من ذلك. اليوم، هناك مسارات هجينة ناجحة، مثل: 1- الوظيفة مع المشروع الجانبي: حيث يعمل الشخص بوظيفة توفر له دخلاً ثابتًا بينما يبني مشروعه الصغير ببطء وأمان. 2 – ريادة الأعمال داخل الشركات (Intrapreneurship): حيث يبدع الموظف ويطور مشاريع جديدة تحت مظلة مؤسسة قائمة توفر له الموارد والحماية. ختام القول، بدلاً من تبني خطاب عدائي ضد الوظيفة، الأجدى هو بناء وعي أكثر توازنًا يُقدر قيمة الاستقرار الذي توفره الوظيفة الجيدة، ويحترم في الوقت ذاته جرأة وخيال رواد الأعمال، مع تقديم صورة واقعية وشاملة لإيجابيات وسلبيات كل مسار، وترك الخيار للفرد بناءً على ظروفه، شخصيته، وأهدافه. لأن النجاح الحقيقي ليس في الهروب من “العبودية”، بل في إيجاد العمل الذي يُحقّق الذات ويوفر الحياة الكريمة، سواء كان تحت مسمى “وظيفة” أم “ريادة أعمال”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى